مُنذُ مَجيء العبَّاسيّين إلى الحُكم، كانت العلاقة بين الدولة العباسية والدَّولة البيزنطية في قِمَّةِ تَوتّرهَا، واتَّخذت طريق المواجهات العسكرية. فاستغلَّ البِيزنطيّون انشغال العَبَّاسيّين بأزماتهم الدّاخلية؛ وأخذوا يُغِيرُون على مُدنهم المُمتَدَّة من أعالي الفرات شرقاً حتى البحر الأبيض المتوسط غرباً؛ ودمَّروا حُصونهم، مِمّا دفعَ العَباسيّين للردِّ عليهم، فقادوا حَمَلات أغاروا فيها على حُصون البيزنطيين في آسيا الصغرى؛ وكانت تُعرَف« بهَضبة الأناضول»؛ حتى خَضَعوا للدّولة الإسلامية، ودعوا لهم الجِزيَة.
صاحب المقولة
هارون، بن محمّد المهديّ، بن عبد الله أبي جعفر المنصور، بن محمد، بن علي، بن عبد الله، بن عبّاس الهاشميّ، كان يُكنَّى بأبي موسى، ثمّ أصبح يُكنّى بأبي جعفر، وُلِد هارون الرشيد في مدينة الرِّيّ سنة 148هـ/765م.
والدهُ الخليفة العبّاسيّ المَهديّ، وأمّهُ، الخَيزُران، وقد نشأ هارون في كنفِ والده الخليفة؛ فاهتمّ بتعليمه، وتثقيفه لغةً، وأَدَباً، كما زَرَعَ فيه حبّ الجهاد، فنشأ شجاعاً وقويّاً، كما أنّ والده أرسله إلى الفتوحات وحَولَه قادةٌ أكفياء لتعليمه، ومن الجدير بالذكر أنّ هارون الرشيد تزوَّجَ من ابنةِ عمّه جعفر بن أبي جعفر المنصور، وكانت تُدعَى زُبَيدة، وذلك في عام 165هـ/782م، حيث أنجبَت له الأمين، والمأمون.
خِلافة هارون الرشيد
بعد وفاة الهادي؛ وهو الأخ الأكبر لهارون الرشيد، انتقلَت الخلافة إليه، فتولّاها سنة 170هـ/786م، ليُصبح خليفةً على إمبراطوريّة تمتدّ من وسط آسيا، حتى المحيط الأطلسيّ، وهو لا يزالُ في الخامسة والعشرين من عُمره، حيث عَيّنَ هارون الرشيد يحيى البرمكيّ وزيراً له، علماً بأنّ خلافة هارون الرشيد كانت مكسباً للأمّة الإسلاميّة؛ وذلك بسبب أعماله العظيمة التي قدّمها للأمّة، فقد قِيل إنّ فترة خلافته هي الأفضل خلال فترة الخلافة العباسيّة التي دامت خمسة قرون.
وفاة هارون الرشيد
توفي هارون الرشيد عام 193هجري، وهو في طريقِهِ إلى خُراسان؛ للقَضاءِ على ثورة” رافع بن اللّيث”؛ودُفِنَ في منطقة” طُوس”، في مدينة مَشهَد الإيرانيّة حاليّاً.
وعندماتوفي هارون الرشيد عام 193هـ؛ ودفن في هذا المكان؛ أقام ولده المأمون على قبره قُبَّة سُميّت فيما بعد( بالقُبَّة الهَارُونيّة).
أعمال هارون الرشيد
وفي فترةِ خِلافتهِ؛ ازدهرت وانتشرت العلوم والآداب، وكثُرت أموال الخَرَاج، حتى بلَغت ذُروتهَا؛ إذْ بَلغت ما مقداره 400 مليون درهم، بحسب تقدير بعض المُؤرِّخين، لتُشكِّل أعلى مبلغ في تاريخ الخلافة الإسلاميّة، وقد كانَت النقود تُجمَع دونَ أيّ اعتداء، أو ظُلم، وكانت تُنفَق بصورة تَخدمُ الأمّة.
وفي عهدهِ أيضاً بُنِيت المساجد، والقصور الفخمة، والمباني الجميلة؛ ونَمَت الدولة، واتّسعَ عمرانها، وازداد عدد سكّانها؛ حيث بلغَ مليون نسمة.
وازدهَر العِلم بِبغداد، في عهد الخليفة هارون الرَّشيد، حتى أصبحت مركزاً للعِلم، والعلماء؛ حيث كانت المساجد تُشكِّلُ ما يشبه جامعاتٍ لطلّاب العِلم الذينَ يتلقَّونَ العِلم من أكابر الفُقَهاء، والمُحدِّثين، والقُرّاء، كما كانَ يأتيها الأطبّاء، والمهندسون من كلّ مكان.
وقد أنشأَ هارون الرشيد في ذلك الوقت، مكتبة تَضمُّ أعداداً ضخمة من الكُتُب، حيث أطلقَ عليها اسم “بيت الحكمة”.
قضى هارون الرشيد في فترةِ خلافتهِ على عددٍ من الثَّورات، والنِّزاعات الداخليّة، والخارجيّة، وأخمَدها بالقُوّة، أو كان يَحلّها باللّينِ والسّياسة والحِنكة؛ مثل ثورة الخوارج، وثورة الدَّيلَم، وثورة أهل خُراسان على عاملهِ عليها، والنِّزاع الذي حصلَ بين القَيسيّة واليَمَانيّة.
خاضَ هارون الرشيد العديد من الحروب ضدّ الروم، حيث كانت تحصل واحدة من هذه الحروب في كلّ سنة تقريباً، فهو الخليفة الذي كان يحُجُّ عاماً، ويغزُو عاماً؛ ولتَحقيقِ النَّصر في هذه الحروب، سعى الخليفة إلى تقوية الأسطول الإسلاميّ، وإقامة دارٍ لصناعة السُّفُن، وتأمين الثُّغور التي قد يُهاجِم الرُّوم الدولة من خلالها.
وبعد العديد من المعارك، فتحَ المسلمونَ بعض الجُزُر، واضطرَّ الروم إلى طَلَب الهُدنة والمُصالَحة، فوقَّعَت ملكة الروم آنذاك، وكانت تُدعَى (إيريني)؛ مُصالَحة مقابل دَفْع جِزيَة سنويّة للمسلمين؛ وبَقِيت تَدفعهَا حتى ماتت.
وهذه الملكة( إيريني)، كانت أول امرأة على الإطلاق تحكم الإمبراطورية البيزنطية؛ والتي شملت أراضيها اليونان، وجزر بحر إيجة، وآسيا الصغرى، والشام. وتَمكَّنت من الإنفراد بالسُّلطة، إذ كانت الوَصيَّة على عرش ابنها قُسطَنطين السادس، بعد موت زوجها الإمبراطور ليو الرابع. وقد سَعَت هذه الملكة للتَّحالف والزَّواج من شَارلمَان ملك الفِرنجَة وإمبراطور الرومان في الغرب، في خطوة غير مألوفة بالنسبة لتقاليد الإمبراطورية البيزنطية، ما أدَّى إلى عزلها عن الحُكم، ونفيها خارج حدود الإمبراطورية؛ وقد اختِيرَ نقفور( وزير المالية)؛ حِينَئذٍ إمبراطوراً جديداً.
قصة المقولة
وحين اعتلى( نقفُور)، عرش الإمبراطورية البِيزنطيّة، أرسل رسالةً إلى” هارون الرشيد”، الخليفة العباسي يطالبه بِرَدِّ الجِزيَة التي دفعتها له الملكة” إيريني”، فبعث له يقول:« من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أمَّا بَعْدُ: فإنَّ الملكة التي كانت قبلي أقامتك مَقام الرُّخِّ، وأقامت نفسها مكان البَيدَق، فَحَمَلتْ إليك من أموالها ما كُنتَ حَقيقاً بحمل أضعافها إليها، لكنَّ ذلك ضعفُ النساء وحُمقَهنّ، فإذا قرأت كتابي هذا، فَاردُد ما حصل لك من أموالها، وَافْتَدِ نفسك بما تقع به المُصَادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك».
فلما وصلَت الرِّسالة؛ وقرأها هارون الرشيد استشاط غضباً، فأرسل رسالته الشهيرة التي خلدها التاريخ الإسلامي، إذ كتب على ظهر رسالة نقفور، وقال:« بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام».
ويخرجُ هارون الرشيد في سنة 187هجرية، على رأس جيش قوامه 135 ألف مقاتل، حتى وصل إلى مدينة هِرقلَة، بالقُربِ من القُسطنطينيّة، وهناك دارت معركة «نيكوبلوس» التي انهزم فيها نقفور، واضطَرَّ لدفع الجِزيَة تماماً مثلما كانت تفعل سابقته.
بعدها بعام، أي في سنة 188هجرية؛ فكَّرَ الإمبراطور البيزنطي مرَّة أخرى في الإمتناعِ عن دفعِ الجِزية للخليفة العباسي، فعاد هارون الرشيد وخاض حرباً جديدة مع البيزنطيين، قتل فيها 40 ألفاً من جيشهم، وجُرِح” نقفور”، وأجبرهم على دفع 30,000 عملة نقدية من الذهب سنوياً، وحرر فيها كل الأسرى المسلمين الذين وقعوا تحت قبضة البيزنطيين.