الحروب والفتن في الشعر الأندلسي

اقرأ في هذا المقال


تميز الأدب المشرقي في الأندلس بسمة خاصة وله وقع وأثر في نفس المتلقي، فهو يمثل الامتداد الجغرافي للثقافة المشرقية في بلاد المغرب التي تراجعت نتيجة انعدام الاستقرار وطرد المسلمين من تلك البلاد، ولكن الكلام المنظوم الأندلسي عاش تجارب عديدة توضح حياة المسلمين هناك وخصوصًا الحروب، وفي هذا المقال سنوضح هذه الحروب التي خاضها أهل المشرق من خلال الأدب في تلك البلاد.

أبرز عوامل ظهور شعر الحرب في الأندلس

1- النزاع بين المسلمين والنصارى: إن المطلع في التاريخ الأندلسي في ذلك الوقت يرى أشكالًا باهرة من صور المجد الحربي والسياسي، وفي المراحل الأخيرة يصف لنا صور مؤلمة لما حل بالأندلس من هزيمة وسقوط العديد من المدن بعد الحروب الدامية التي نشبت بين أهلها والعدو الغاصب، فتوجه رواد الأدب إلى تصوير تلك المعارك ومنهم أبو إسحاق الإشبيلي الذي وصف معركة العقاب قائلاً:

وقائلة أراك تطيل فكرا

كأنك قد وقفت لدى الحساب

فقلت لها أفكر في عقاب

غدا سببا لمعركة العقاب

فما في أرض أندلس مقام

وقد دخل البلا من كل باب

لقد استعمل أبو إسحاق الكثير من المفردات الدالة على التشاؤم واليأس، ويوضح من خلالها الأندلس بعد هذه الواقعة حيث أصبحت أرض خراب وشؤم ويجب على أهلها مغادرتها، كما توجه ابن سهل إلى رثاء إشبيلية بعد أن سقطت وتم السيطرة عليها من ملك قشتالة واحتل مدنها وقلاعها، موضحًا مدى الظلم والاضطهاد الذي تعرض له المسلمين حيث يقول:

والكفر ممتد المطالع والهدى

متمسكٌ بذنابِ عيش أغبر

كم نكروا من مَعْلم كم دمروا

من معشر كم غيروا من معشر

في الأبيات السابقة يوضح ابن سهل الوحشية والاضطهاد الذي ارتكبه النصارى في إشبيلية وأهلها من قتل وخراب وتدمير؛ وذلك لأن ملك قشتالة أراد أن ينتقم منهم لأنهم خرجوا عن أمره، وعلى الرغم من محاولة شعب إشبيلية الدفاع عنها وحمايتها ولم يتمكنوا من ذلك أمام هذه الحشود، ونرى ابن سهل يصور لنا وضع المدينة بعد حصارها يستنجد بأهل العروبة لنصرتهم ويقول:

 وِرداً فَمَضمونٌ نَجاحُ المَصدَرِ

هِيَ عِزَةُ الدَنيا وَفَوزُ المَحشَرِ

نادى الجِهادُ بِكُم لِنَصرٍمُضمَرٍ

يَبدو لَكُم بَينَ العِتاقِ الضُمَّرِ

خَلّوا الدِيارَ لِدارِ خَلدٍ واِركَبوا

غَمرَ العَجاجِ إِلى النَعيمِ الأَخضَرِ

2- الفتن الداخلية بين الملوك: كثرة النزاعات والانقلابات ودار صراع كبير بين ولاة الأمر على السلطة، والتي أنهكت قوة النضال وحطت من عزائمهم للدفاع عن بلادهم وقد دامت تلك النزاعات وتطورت عند ثورة كبار شخصيات البلاد ووصف ابن الخطيب هذه المحنة بقول:

حمد الأرضي سَلِيلُ مُحَمَّدٍ

إمامُ الهُدَى نَجلُ الإمامِ مُحَمَّدِ

فيا نُخبةَ الأملاكِ غير منازع

ويَا عَلَم الأعلامِ غير مُفَنَّد

كما توجه ابن الخطيب إلى وصف انقسام وتفرق المسلمين إلى أحزاب وشيعة متخاصمين مما فتح المجال أمام النصارى لنشر الفتنة وسيطرتهم على الحكم البلاد الذي ساده الضعف والتفرقة نتيجة لتلك النزاعات ويقول في ذلك:

تَحَكّمَ في سُكّانِ أندَلُسَ العِدَا

 فلَهفاً على الإسلامِ ما بينَهُمْ لهْفا

 وقدْ مُزِجَتْ أمْواهُها بدِمائِها 

فإنْ ظمِئَتْ لا رِيَّ إلاّ الرّدَى صِرْف

لقد برز في هذا العهد الهوان وعدم الاستقرار مما أدى إلى انتشار الخلافات الداخلية وكذلك الأهلية التي أضعفت البلاد وأظهرت الصفة التي تميز بها الحكام في آخر عهدهم وعن ذلك يقول يوسف الثالث:

شــخــصٌ يَهــيـمُ بـكـل وادٍ مـثـلمـ

لعـبـت بـمـجـنـون الحمى الأوهام

مجــاءت بــه أيــامُ دهْـرٍ قـد قـضـى

أن تـــعـــدل الآراء والحـــكـــام

الأغراض التي خرج إليها شعر الحروب في الأندلس

1- رثاء المدن: الرثاء هو البكاء والتحسر على الشيء تم فقده وخسارته وهو من المواضيع القديمة التي تقال لتصوير مدى المصيبة والفجيعة جراء الفقد، لكن الرثاء في الأندلس كان مغاير عن القديم من حيث المحتوى لأنه تناول الولايات لا الناس كما هو شائع، فهي الحبيبة الضائعة والتي عبر عنها رواد الأدب بالكلمات الموجعة الموضحة لمدى المصاب الجلل الذي حل بهم.

أبو البقاء الرندي من رواد الأدب الذين ثاروا وغضبوا بعد سقوط إشبيلية حيث تألم كثيرًا عند مشاهدة مدينته تنهار وتزول ويقول:

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ

فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ

مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ

وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ

وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ

يُمَزِّقُ الدَهرُ حَتماً كُلَّ سابِغَانُ

قام ابن عميرة الذي رثى بلنسية وعبر عن مشاعر اليأس والتشاؤم والذي يرى أنه لا فائدة من المقاومة فأنشد:

 ألا أيّها القلب المصرّح بالوجد 

أما لك من بادي الصّبابة من بدّ

وهل من سلوّ يرتجى لمتيّمٍ 

له لوعة الصادي وروعة ذي الصّدّ

يحنّ إلى نجدٍ، وهيهات حرّمت 

صروف الليالي أن يعود إلى نجد

أما ابن الآبار فيقف باكيًا أمام المعالم الإسلامية والديار التي حلَّ فيها الخراب وأصبحت خالية من المسلمين في بلسنة التي رثاها وتحدث عن مدى حزنه وهو يسمع الأجراس فيها بدل الأذان ويقول:

يَا للْمَساجِدِ عَادَتْ للعِدَى بِيَعاً

ولِلنِّداءِ غَدَا أَثْناءَها جَرَسا

لَهْفِي عَلَيها إلَى استِرجَاعِ فائِتِها

مَدارِساً لِلْمَثانِي أصبَحَتْ دُرُسا

وَأَربعا نمْنمَتْ يُمْنَى الرَّبيعِ لَها

ما شِئت مِنْ خِلَعٍ مَوْشِيَّةٍ وكُسى

كانَتْ حدَائِقَ للأَحْدَاقِ مؤنِقَةً

2- الاستصراخ واستنهاض الهمم للجهاد: توجه رواد الأدب في الأندلس إلى الاستغاثة وطلب المساعدة من إخوانهم بعد رؤيتهم بطش أعدائهم النصارى، مستخدمًا الجانب الإسلامي في ذلك ووحدة العقيدة والأخوة التي تجمع بين المسلمين أينما كانوا، ونرى أن ابن الأبار قد توجه إلى استنهاض الهمم ودعوة المسلمين من خارج البلاد إلى العبور ونجدة المدن المحاصرة ويقول:

أَدْرِكْ بِخَيْلِكَ خَيْلِ اللَّهِ أندلُسَاً

إنَّ السَّبِيلَ إلَى مَنْجاتِها دَرَسَا

وَهَبْ لهَا مِنْ عَزيزِ النَّصْرِ مَا الْتَمَسَتْ

فَلَمْ يَزَلْ مِنْكَ عزُّ النَّصْر مُلْتَمَسا

كما نشاهد ابن سهل يستصرخ ويحث على الجهاد:

نادى الجِهادُ بِكُم لِنَصرٍمُضمَرٍ

يَبدو لَكُم بَينَ العِتاقِ الضُمَّرِ

خَلّوا الدِيارَ لِدارِ خَلدٍ واِركَبوا

غَمرَ العَجاجِ إِلى النَعيمِ الأَخضَرِ

وَتَسَوَّغوا كَدِرَ المَناهِلِ في السُرى

تَرووُا بِماءِ الحَوضِ غَيرَ مُكَدَّرِ

3- وصف انتصارات المسلمين: احتل هذا الأدب مكانة عالية بسبب كثرة المعارك التي جرت بين المسلمين والنصارى، والذي من خلالها كانت هناك محاولة لاسترجاع المدن وحمايتها والإشادة بالأعمال البطولية التي قام بها القادة في ساحات الجهاد ومثال عليه ما كتبه ابن زمرك واصفًا بسالة الأميرين سعد ونصر حيث يقول:

 آل نصر أنتم سُرُجُ الهدى

في كلّ خطب قد تجهم مظلم

الفاتحون لكل صعب مقفلٍ

والفارجون لكل خطب مبهم

والباسمون إذا الكماة عوابسٌ

والمقدمون على السوادِ الأعظمِ

أبناء أنصار النَّبيّ وحزبه

كما نرى ابن الآبار يتوجه إلى الحديث عن شجاعة أبو زكريا الحفصي في أبيات أرسلها له مستنجدًا من حصار ملك قشتالة لمَدينة بلنسية:

أَيَّامَ سِرْتَ لِنَصْرِ الحَقِّ مُسْتَبِقاً

وَبتَّ مِن نُورِ ذاكَ الهّدْي مُقْتَبِسا

وَقُمتَ فيها بِأَمْرِ اللَّهِ مُنتَصِراً

كَالصَّارِمِ اهتَزَّ أَو كالعارِضِ انبَجَسا

تَمحُو الذِي كَتَبَ التَّجْسيمُ مِن ظُلَمٍ

وَالصُّبْحُ مَاحِيةٌ أَنْوارُهُ الغَلَسا

4- ذكر الهزائم والويلات الواقعة بالمسلمين: لقد تناول شعر الحروب الهزائم والمأساة بمفردات قاسية معبرة فنرى العقيلي يتحدث عن نهاية غرناطة راجيًا من الله أن يلهمه الصبر لتحمل هذه النتيجة ويقول:

بالطبل في كل يوم 

وبالنفير نراع

ليس من بعد هذا

وذاك إلا القراع

يا ربُّ جيرك يرجو

من هيض منه الذراع

لا تسلبني صبرًا

منه لقتلي أدّراع

وفي النهاية نستنتج إن الأدب الذي تناول الحروب في الأندلس ظهر نتيجة النزاعات الداخلية التي انتشرت في البلاد والذي فتح المجال أمام النصارى من احتلالها وانهاء تواجد المسلمين فيها، فتوجه رواد الأدب إلى رثاء مدنهم وبكائها واستنهاض الهمم وطلب العون من إخوانهم المسلمين في خارج البلاد. 


شارك المقالة: