الأمم تتفرد بموروثها الثقافي الذي تملكه، والذي يصوّر عن الكثير من الوقائع والمناسبات، التي حصلت خلال التاريخ، ولعل من أكثر أنواع التراث شهرة “الأمثال الشعبية” والحكم، ويقوم الناس باستخدام هذه الأمثال أو الحكم إذا مرّوا بظرف أو حدث مشابه للحدث الأصلي الذي قيلت فيه تلك الأمثال، فيعبرون عنه بمثل أو حكمة، وهكذا تبقى محفوظة، ويتداولها الناس جيلًا بعد جيل مع إضافة ما استجد من أمثال تعبر عن أحداث الحاضر، والمثل الذي سنتناوله لاحقًا، هو: “الحسود لا يسود”.
معنى مثل “الحسود لا يسود”:
ممّا يجدر قوله هنا أن معنى المثل “الحسود لا يسود”، أن الحسود لا يبلغ السيادة و الأفضلية أبدًا، فالحسد له أثره الكبير بشكل طبيعي، فالله سبحانه وتعالى يعلم أن الحسود إذا بلغ مقامًا ساميًّا؛ فهو بالتاكيد سيسعى للقضاء على نِعم من تحت يده، لذلك لا يدعه الله تبارك وتعالى يفوق الآخرين، ولا يتركه يصبح ذا مقام رفيع، والحسود قد يعمل عملًا في طريق حرصه للقضاء على نعم الآخرين يجعله حقيرًا في أعينهم، و يسقطه عن العظمة و الأفضلية و السيادة.
قصة مثل “الحسود لا يسود”:
تدورُ أحداث قصة مثل “الحسود لا يسود” في زمن الخليفة العباسي المعتصم بالله، بين رجلين: أحدهما كان مقرّبًا من المعتصم، والثاني هو الوزير، حيث إنّه دخل رجل على المعتصم فقرّبه وأدناه، وجعله نديمه، وصار يدخل على حريمه من غيرِ استئذان، وكان للمعتصم وزير حاسد، فغار من ذلك الرجل وحسده، ثم قال في نفسه: إن لم أتحايل على هذا الرّجل وأقتله فسوف أفقد مركزي، فصارَ الوزير يتلطّف ويساير الرّجل، حتّى جاء به الى منزله، ثم إن الوزير طبخ للرّجل طعامًا، وأكثر فيهِ الثّوم، فلمّا أكله الرّجل قال له الوزير: احذر أن تقترب من أمير المؤمنين فيشتمّ منك رائحة الثّوم فيتأذّى من ذلك؛ لأنّه يكره رائحته، ثمّ ذهب الوزير إلى المعتصم بالله، وقال له: يا أمير المؤمنين إنّ الرّجل الذّي تتّخذه صديقًا لك يقول عنك أنّك أبخر “أي الشّخص ذو الرائحة الكريهة من الفم”، وأنّ رائحة فمك قد أهلكته.
لمّا أتى الرّجل مجلس المعتصم وضع يده على فمهِ خوفًا من أن يشتمّ منه رائحة الثّوم، فلمّا رآه الخليفة، وهو يغطي فمه بيدهِ قال في نفسه: يبدو أنّ ما قاله الوزير عن هذا الرّجل صحيح، فكتب المعتصم كتابًا إلى أحد ولاته، يقول له فيه: إذا وصل إليك كتابي هذا فاضرب رقبة حامله، ودفع إليه بالكتاب، وقال له: امضِ بهذا الكتاب إلى فلان، وائتني بالجواب، وبالفعل امتثل الرّجل لطلب الخليفة، وأخذ الكتاب وخرج به من عنده.
لما وصل الرّجل الباب، إذ لقيه الوزير فقال: إلى أين أنت ذاهب؟ فأجابه الرّجل: إني متوجّه بهذا الكتاب من الخليقة إلى واليه فلان، فقال الوزير في نفسه: إنّ هذا الرّجل يحصل له من التقليد مالًا كثيرًا، فقال له: اسمع يا رجل، ماذا تقول فيمن يريحك من هذا التعب الّذي يلحقك في سفرك ويعطيك ألفي دينار؟ فردّ عليه الرّجل قائلًا: أنت الكبير، وأنت الحكيم، ومهما رأيت من رأي سأفعل، فقال الوزير: أعطني الكتاب، فدفعه إليه وأعطاه الوزير ألفي دينار، وسار الوزير بالكتاب إلى المكان الّذي هو قاصده، فلمّا قرأ الوالي الكتاب، أمر بضرب رقبة الوزير على الفور.
العبرة من مثل: “الحسود لا يسود”
لا شكّ أن الحسد من أشدّ أمراض القلوب على الإنسان، إذ قال بعضهم فيه: “إن الحسد هم إساءة تلحق سببها العلم بحال الأغنياء، فليس جائزًا أن يكون الشخص الفاضل حسودًا؛ ذلك أن الفاضل يجري على ما هو الجميل، وقد قال طائفة من الناس: إنه تمنى زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، بخلاف الغبطة: فإنه تمنى مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط.
في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود وابن عمر رضي اللّه عنهما أنه قال: ”لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه اللّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه اللّه مالا فسلطه على هلكته في الحق” هذا لفظ ابن مسعود، ولفظ ابن عمر: ”رجل آتاه اللّه القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه اللّه مالاً فهو ينفق منه في الحق آناء الليل والنهار”.