كانت فترة العهد العثماني فترة صعبة ذات ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة، رافقتها الحروب وانتشار الطائفية ونهب البلاد والبشر آنذاك، وكل ذلك دفع الناس للهجرة وترك أوطانهم باحثين عن دول تستوعبهم ووجدوا ذلك في الدول الأمريكية، حيث انتقلوا إليها من بلاد الشام وقاموا على تأسيس جاليات لهم هناك.
شعراء المهجر
هم من الشعراء الذين تركوا بلادهم نتيجة لعدة عوامل دفعتهم إلى تركها، وقاموا على كتابة الشعر في البلاد التي رحلوا إليها واستقروا فيها، وَأطلق مسمى شعراء المنفى على عصبة من أهل بلاد الشام وخصوصًا أهل لبنان الذين انتقلوا من بلادهم إلى الولايات المتحدة، وتعوّد الناس على إطلاق مسمى شعراء المنفى على أفراد “العصبة الأندلسية والرابطة القلمية.”
وعرف عن إسبانيا أنها كانت عبارة عن حاضنة قامت على حضن العرب الذين هربوا من استبداد وظلم الأتراك باحثين عن رزقهم في إسبانيا، وَكان يتميز شباب المهجر آنذاك بالآمال والطموح والحلم بالحرية، والرغبة الكبيرة لديهم من الاستفادة من الأفكار النيرة في إسبانيا وكذلك الاستفادة من الخيال الخصب.
أنواع شعراء المهجر
1ـ شعراء المهجر الشمالي: وهم من الشعراء الذين توجهوا إلى أمريكا والمناطق الشمالية، وهم أصحاب الرابطة القلمية وعصبة من خارج الرابطة، ولقد تم تأسيس هذه الرابطة بقيادة جبران خليل جبران.
2ـ أدباء المهجر الجنوبي: هم أهل الشعر العرب الذين انتقلوا من بلاد الشام إلى أمريكا الجنوبية وقاموا على إنشاء العصبة الأندلسية هناك، وَكانت تضم نخبة من الأدباء مثل فوزي معلوف، ميشيل معلوف، وشفيق معلوف، وإيليا أبو ماضي وغيرهم الكثير من الشعراء والأدباء.
الحنين إلى الأوطان في شعر المهجرين
ظهرت معاناة شعراء المهجر وحنينهم إلى أوطانهم من خلال أشعارهم ومؤلفاتهم، التي صورت مدى المعاناة وقسوة الحياة واستعصاء الرزق عليهم، وتأزم الوضع السياسي بفعل ظلم العثمانيين، الذين لم يجدوا أمامهم حلّاً إلا أن يهجروا بلادهم باحثين عن حياة كريمة في دول أخرى غير بلادهم، وفعلًا وجدوا ذلك في الدول التي هاجروا إليها.
وقد أدت هجرة الشعراء والأدباء إلى دول أخرى إلى غنى اللغة العربية، مما أدى إلى نظم شعر سلس منبثق من الوجدان ومن الفكر الصحيح المتشبع بالتجارب، وَهذا ما تجلى في شعر أغلب شعراء المهجر مثل جبران خليل جبران، وآل معلوف، وميخائيل نعيمة وغيرهم الكثير.
والشخص يهاجر من وطنه تاركًا أهله وأصحابه وأجمل أيامه خلفه، فيحن الشاعر إلى تلك الديار والأوطان التي كوّنت شخصيته فيها وتعلقت روحه بها وبلغتها وديانتها وكذلك عاداتها وتقاليدها، فكان شعره في بلاد المهجر يعجّ بالحنين والشوق لوطنه، ومثال على ذلك ما نظمه زكي قنصل وهو أديب من أدباء سوريا المهاجرين حيث يقول:
أيها العائدون للشام هلا
نفخة من شميم أرض النبوة
علم الله كم صبرنا إليها
واشتهينا تحت العريشة غفوة
ونحس بمدى الألم الذي يسكن ضلوعه وعبرات الشوق التي تنزل من مآقيه معبرة عن مدى الشوق الذي يسكن قلبه حنينًا لوطنه حيث يقول:
يا عائدين إلى الربوع
قلبي تحرق للرجوع
نهنهتها فازداد تحنانا
وعربد في الضلوع
يا عائدين إلى الحمى
قلبي به عطش وجوع
بالله هل في المركب
متسع لملهوف ولوع
وحزمت أمتعتي فيا
قلب ارتقب يوم الرجوع
وأما عن شعر الحنين في شعر نعمة قازان الذي ولد في لبنان وهاجر إلى البرازيل وكان جزء من العصبة الأندلسية، فيتحدث عن شوقه لوطنه مصورًا ما يعانيه من وجع الغربة والشوق إلى أيام الطفولة ويتمنى لو يرجع لبلده لبنان حيث يقول:
بلادي أستطيع نكراها
إذن فاخلعوا الحب من بنزرتي
ولبنان أمي به حفنة
سقتك السموات يا حفنتي
وأهلي وما أقول بمحبوبتي؟
أقول بقاء الدنيا حلوة
وأحلى بقاع الدنيا حلوة
وأحلى بقاع الدنيا بقعتي
وكنت مع الله في قريتي
فصرت بلا الله في غربتي
وكنت غنيا مع القلة
فصرت فقيرا مع الكثرة
ولولا الحبيب وعودي الرطيب
رماني اللهيب إلى الشهوة
ولولا الرجاء بعود الرجا
قذفت بنفسي إلى الهوة
وَبالنسبة للشاعر حسني غراب الحمصي الذي تحدث عن وطنه بأروع الأحاديث الصادرة عن القلب حيث يقول:
أبعد حمص لنا دمع يراق على
منازل أم بنا من حادثات هلع؟
دار نحن إليها كلما ذكرت
كأنما هي من أكبادنا قطع
وملعب للصبا نأسى لفرقته
كأنه من سواد العين منتزع
ونرى ظاهرة الحنين تنعكس على شعر الشاعر شكر الله الذي انتقل إلى البرازيل تاركًا موطنه لبنان، وهو أحد أفراد العصبة الأندلسية حيث يقول:
ذكر الأرز بعد شط مزاره
أي جرح يسيل من تذكاره
ليس أشهى على القلوب وأندى
من شذا شيحه ونفح عراره
وبخصوص شعر الشاعر نعمة الحاج الذي هاجر من لبنان إلى أمريكا يذكر الحنين والوفاء للوطن والأهل وفي ذلك يقول:
ما نسينا ويشهد الله أنا
نحن بالروح حيث كنا
إن بعدنا وإن قربنا قلبنا
ن سناه يشع فينا ومنا
نحن في الأرض أنجم ونسور
حلت العاليات برجا ووكنا
هذه النهضة الحديثة منكم
قربت منذ نحن بالأمس بنا
قد نفحنا ببوقها وأثرنا
نارها والعيون إذ ذاك وسنى
أيقظتك من الكرى فهيم
وأجد تم تجديدها فهي أمسنا
وَفي أبيات شعر شفيق معلوف الذي هاجر إلى البرازيل في قصيدته المعروفة بين شاطئين يتحدث عن الفراق والدموع وخفق قلبه شوقًا لوطنه حيث يقول:
ذراع ملاق إثر كف مودع
تلوحان لي كلتاهما خلف مدمعي
مناديل من ودعت يخفقن فوقهم
فلا ترهقهم ياسين واقلعي
وَيُعد الشاعر رشيد الخوري الذي ترك موطنه منتقلًا إلى البرازيل من أقوى شعراء المهجر وأقدرهم على تخيل اللفظ الذي يحمل ألم الغربة، حيث يقول في ذلك:
نصحتك يا نفس لا تطعمي
وقلت حذار فلم تسمعي
فإن كنت تستاهلين الوداع
كما تدعين إذا ودعي!
خرجت أجرك جر الكسيح
تئنين في صدري الموجع
ولما غدونا بنصف الطريق
رجعت وليتك لم ترجعي
كفاك اضطرابا كصدر المحيط
قف حيث أنت ولا تجزعي
سأقضي بنفسي حقوق الغلى
وأرجع فانتظري مرجعي
وَنرى الشاعر صيدح الدمشقي الذي يتحدث عن حنينه إلى مدينة دمشق بأحلى الأحاديث مصورًا شدة ألمه نتيجة بعده عن دمشق حيث يقول:
أنا وليدك يا أماه كم ملكت
ذكراك نفسي وكم ناجاك وجدان
منذ إفترقنا نعيم العيش فارقني
والهم والغم أشكال وألوان
عهد الشباب وعهد الشام إن مضيا
فكل ما أعطت الأيام حرمان
وَنرى الحنين إلى الوطن ظاهرًا في شعر أحمد زكي الذي يتوق شوقًا لمصر حيث يقول:
بكى الربيع طروبا في مباهجه
وقد بكيت أنا حي وأوطاني
أنا العذاب أشواقي وأحزاني
لي في ثرى مصر دمع نائح ودم
أذيب من مهجتي الله في ونيراني
تركته مثل غرس الحب ما ذبلت
أزهاره أو أغاثت روح لهفان
أشمها في اغترابي حين تلسعني
ذكرى الشباب وذكرى عمري الفاني
وَلن ننسى شعر إيليا أبو ماضي وحنينه لوطنه ولوعته نتيجة بعده عن أحبابه، وتذكره لعهد الصبا حيث يقول:
وطن النجوم أنا هنا
حدق أتذكر من أنا؟
أنا ذلك الولد الذي
دنياه كانت ها هنا
أنا من مياهك قطرة
فاضت جداول من سنا
كم عانقت روحي رباك
وصفقت في المنحنى
وفي أبيات أخرى له يعتذر من وطنه لبنان بسبب بعده عنه ويقول:
لبنان لا تعذل بُنيك إذا هم
ركبوا إلى العلياء كل سفين
لم يهجروك ملالة لكنهم
خلقوا الصيد اللؤلؤ المكنون
لما ولدتهما نسورًا حلقوا
لا يقنعون من العلا بالدون
وفي النهاية نستنتج أن الغربة والحنين كانت تشحذ أفكار الشعراء المهجرين، وَالتحليق في سماء الإبداع الفني في هذا الغرض الذي عبّر عن مدى ألمهم الذي حلَّ بهم نتيجة بعد وفراقهم لوطنهم ومستذكرين أيام الصبا والأهل والخلان في أوطانهم.