عاش أهل الأندلس في حياةٍ مليئةٍ باللهو والمجون والسَّمر، وكان الثراء الفاحش الذي تعيشه الأندلس أثر واضح في نفوس أهلها، فكثرت مجالس اللهو والسمر وتوجهوا إلى تناول الخمر في هذه المجالس، وكان مزاج الأندلسي الحاد سبب لتوجه إلى الخمر، ولم يكن الخمر مقتصرًا على أهل الأندلس فقط في تلك الفترة فترة الحروب والاستعمار وإنما عرف أهل المشرق كذلك بهذه الآفة، وفي هذا المقال سنتوجه إلى هذه الظاهرة ومدى تأثيرها على شعراء العصر الأندلسي.
ظاهرة شرب الخمر في العصر الأندلسي
اهتم أهل الأندلس بشرب الخمر وأقبلوا عليه ودفعهم لذلك عدة أسباب ظهرت في الأندلس، ومنها ما يتعلق بمزاج أهل الأندلس الحاد الذي نتج وتأثر بالحروب التي جرت على أرضهم، فطبع المحارب دائمًا يميل إلى العنف والتوجه إلى فنون المتاع في حياته.
كان أهل الأندلس يتوجهون لشرب الخمر باحثين عن اللهو والطرب والكيف وخصوصًا في مجالسهم، وكان لطبيعة الأندلسية وتقلباتها أثر على الشعراء، فكانوا يعيشون فيها بأجواء البرد والثلج والأمطار الغزيرة أيام الشتاء، وكذلك يعيشون فيها الجمال والخضار وسحر الربيع، فكانت كل هذه التقلبات لها أثر في نفس الشاعر ومنشط له ليتوحه إلى شرب الخمرة.
وعرف عن المجتمع الأندلسي أنه مجتمع مترف، يتكون من أجناس وأصول متعددة، وكذلك سكانها الأصليين الذين عرف عنهم تعلقهم الشديد بالخمرة، وكذلك انتشرت في بيئتهم حانات الخمر كذلك.
ويوعز بعض الدارسين للمجتمع الأندلسي سبب تعلقهم بالخمرة إلى القلق الذي كان يعيشه أهل الأندلس وخصوصًا بعد كثرت الأحداث والحروب التي قامت على أرض بلادهم، فمالوا إلى المتع واللهو والشرب والغناء وكذلك الرقص والموسيقى وغيرها.
ولقد ازدهر في هذا العصر شعر الخمريات الذي كثر في مجالس اللهو والترف، ولمع في هذا الفن نجم ابن حمديس، وقام ابن حمديس بتناول الخمرة، وكان يعتبر الخمرة مخلوق ذو شخصية متفردة، فهي عنده ليست مشروب عابر فقط، ووصفها ابن حمديس في أغلب أشعاره بأنها شقيقة الروح وفي ذلك يقول ما يلي:
دَمُ الكرم في الكأس أم عَنْدَمُ
به تُخضَبُ الكفُّ والمِعصَمُ
أصفراء يبيض منها الحباب
أم الشمس عن أنجمٍ تبسِمُ
وتلك شقيقة روح الفتى
إذا وجدت فالأسى يُعدَمُ
وفي أبيات أخرى من قصيدة له يقول فيها واصفًا الخمرة:
مُدامةٌ للروح أُختٌ برةٌ
ينأى بها سرورنا عن الترح
يظهر في أبيات ابن حمديس تعلقه الشديد بالخمرة، فهو يقدسها ويخر ساجدًا لها غير مبالي بالقيم الدينية والاجتماعية، وهذا النوع من الشعر أعطى بعدًا روحيًا، وكيف أن الخمرة مشروب مقدس في نفس الشارب، وكذلك أعطى بعدًا معنويًا فهي طريق ووسيلة للوصول إلى اللذة والمتعة.
ظهر في شعر شعراء الأندلس أسماء مختلفة للخمرة ومنها: الصبوح، والريحانة، وكميت، والقهوة، وخندريس وكذلك المدام، وهي أسماء دلت على أنواع وصفات هذا المشروب، وتعتبر الخمرة عند ابن حمديس وسيلة يزيل بها أحزانه، لقد عاش الشاعر في حياة الحروب والصراعات التي انعكست على نفسيته فجعلته إنسانًا مضطرب دائم القلق والحزن، وكان الشعر يعكس هذا الاضطراب بشكل واضح، وكانت الوسيلة الوحيدة في نظر الشاعر هي التوجه إلى شرب الخمر كي ينسى هذه الهموم والأحزان.
ومن الجهة المقابلة للحزن والهموم في نفس ابن حمديس يوجد جانب مفرح متفائل، ويغلب عليه سمة السرور والتفاؤل ولا يكون ذلك الجانب قائم عند ابن حمديس إلا بشرب الخمر التي تلعب بعقل الشاعر وفي ذلك يقول:
وحمراء تنشر ريَّا العبير
وفي طيَّهِ فرجٌ للحرْ
معتقةٌ شُق عنها الثرّى
وحيّ السرور بها في دفين
تربّت مع الشمس في عمرها
منُقَّلةً في حُجورِ السنين
ولم يستطيع الشاعر الأندلسي التخلي عن الطبيعة الأندلسية، هي الملهب للمشاعر الحقيقية في نفس الشاعر، ولقد أدخل ابن حمديس الخمرة إلى شعره الذي وصف فيه يومًا من أيام الأندلس التي عاشها حيث تراكمت الغيوم وانهمرت الأمطار على جبالها فيقول:
ذخيرة للعيش مَرّ عمرها
عددٌ يشق على يدي من يحسبُ
دبابةُ في الرأس يصعد سُكرها
فتجد منا بالعقول وتلعب
دارت بعقلي سورةٌ كأسها
حتى كأنَّ تحتي لولبُ
قالوا: الصبوح فقلت: قرِّب كأسه
إني لمهديها بها أتقربُ
وهذا الشاعر يرسم لنا من خلال أشعاره في الخمرة بعدًا آخر لهذا المشروب وهو البعد النفسي واعتبرها الشاعر طريقة يغير بها أطباع الناس بعد شربها، وشبهها بوعاء للحب وصفاء النفس ونقائها، وكذلك تجعل من شاربها كريم طيب الأخلاق، ومحولةٌ لقلوب الناس إذ تجعلها لينة سمحةً بعد ما كانت قاسية شديدة العنف وفي ذلك يقول:
وكم من كميت اللون تحسب كأسها
لها شفةٌ لعساءُ ذات لمى عذب
إذا مزجت لانت لنا وتحولت
بأخلاقها عن قسوة الجامح الصعب
وفي صورة أخرى صورها لنا الشاعر من حياته وهو يجلس بجوار محبوبته صباحًا في الطبيعة الأندلسية الخلابة في يومٍ يعجُ بالحركة والحياة مع سقوط المطر وضوء البرق وصوت الرعد وهو جالس بجوارها يشرب الخمر، ويقول:
يا شقيق النفس أنفاس الصبا
بردت والصبح لا شك اقترب
قم أمتعك بعيش لم تقع
في صفاء منه أقذاء النوب
فلقد حان لضوء الفجر أن
يضرب السرحان فيه بذنب
فأدرها تحت ليلٍ سقفه
ظلمةٌ فيها من النور ثقب
أو على برق سماء ضاحك
غيمه بالدمع منه منسكب
وفي النهاية نستنتج أن أهل الأندلس عاشوا في حياة مليئة باللهو والترف والمجون، وكثرة المجالس التي أُنشأت من أجل هذه الغاية وأقيمت هذه المجالس في حوانيت الخمر، أقبل أهل الأندلس على شرب الخمر وسيطر عليهم بشكل كبير، وكان له أثر كبير في نفوس شعراء الأندلس الذين تعلقوا به وذكروه في معظم أشعارهم.