الدراسات العلمية والفلسفية والأدبية في العصر الأندلسي

اقرأ في هذا المقال


لم تظهر الفلسفة في العصر الأندلسي مبكرًا، لكنها تأخرت في ظهورها لعدة أسباب منها بُعدها عن مركز الحضارة الإسلامية الفلسفية، غير أنها كانت مُشابهة للفلسفة المشرقية، وعلى الرغم من قلّتها في العصر الأندلسي إلا أنها برزت في العديد من الميادين، أمثال الشعر والأمثال الشعبية والطب وغير ذلك، ولقد ظهر فيها نخبة من الفلاسفة المشهورين أمثال ابن خفاجة وابن رشد.

نشأة الحركة العلمية والفلسفية في العصر الأندلسي

إن نشأة الفلسفة في العصر الأندلسي مشابهة تمامًا لنشأتها في المشرق العربي، فكان اهتمام الخلفاء والحكام السبب الرئيسي في ظهور الفلسفة في المشرق العربي، سواء أكان ذلك في مجال الطب أو التنبؤات الفلكية أو غير ذلك، فلقد كانوا يحتاجونها كثيرًا في حياتهم اليومية، وكانوا شديدي الإيمان بعلم التنجيم والتنبؤات الفلكية، وما يحدث في هذه الحياة من أحداث، وهناك رجال دولة هم بالأساس أطباء ومنجمون، وكان الطب والتنبؤ الفلكي من الفروع الأساسية للفلسفة عند اليونان، وهذا كان حال أهل الأندلس كذلك في ذلك العصر.

وكانوا بحاجة شديدة للأطباء الذين يقومون على مداواتهم، ولكثرة أماكن المجون والترف واللهو التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، وكذلك بسبب الإكثار من تناول الطعام بشتى اشكاله دون الانتباه لصحتهم فكانت سبب لكثرة أمراضهم وضعف أجسامهم، لذلك نرى أن الفلاسفة في العصر الأندلسي كانوا أطباء أولًا، أمثال الكرماني وابي جعفر أحمد بن خميس، ومن أمثال المتنبئين: ابن السمينة ومسلمة بن أحمد المجريطي وغيرهم.

عوامل ظهور الفلسفة في العصر الأندلسي

كان هناك عِدّة أسباب ساعدت على ظهور الحركة الفلسفية والعلمية في العصر الأندلسي، وفيما يلي أهم هذه الأسباب:

1- سفر أهل بغداد إلى بلاد الأندلس في أول عهدها، فلقد تعلم منهم علماء الأندلس ما وصلوا إليه علماء بغداد في مجال الطب، أمثال الطبيب البغدادي المشهور إسحاق بن عمران، الذي انتقل من بغداد إلى الأندلس.

2- اهتمام خلفاء وحكام الأندلس بنقل الكثير من كتب الفلسفة إلى بلادهم، وأكثروا من نقل كتب الفلسفة وبالتحديد تلك التي كانت مترجمة عن اليونانية، ولم يتركوا أي كتاب جديد في الفلسفة إلا واحضروه إلى بلاد الأندلس، ومثال على ذلك ما قام به الكرماني وهو من مدينة قرطبة فلقد ذهب إلى المشرق ونقل معه عند عودته إلى الأندلس رسائل إخوان الصفاء.

3- تحسن العلاقات بين خلفاء الأندلس وبين القسطنطينية، فلقد أهدوا خلفاء وحكام الأندلس العديد من الكتب العلمية والفلسفية، مثال كتاب ديسقوريدس الذي كان يتناول علم النبات بالتوضيح، فلقد تم ترجمته في مدينة بغداد زمن المتوكل، فلقد تم ترجمته من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية بواسطة إسطفن بن باسيل، وأشرف على تصحيح ترجمته حنين بن إسحاق، فلقد تمّ نقله إلى الأندلس زمن عبد الرحمن الناصر، وانتفع الناس بمعلومات هذا الكتاب المترجم.

فكل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى نشوء مجموعة كانت تهتم وتشتغل بالطب والتنجيم، وأقبل أهل الأندلس على تعلم الطب والتنجيم بشغف وحب كبير، ولكن لم يلقى علم الإلهيات قبولًا بين علماء الأندلس، لأنهم كانوا يميلون إلى الفقه المتشدد، فكانوا يتشددون في تفسير الحديث وغير ذلك.

ولذلك كان في هذا العصر إذا خرج أي شخص عن الطب والتنجيم إلى أي فلسفة أخرى يُتهم بالزندقة والإلحاد والكفر، وكانوا يوقعون عليه العقوبات الصارمة التي تصل إلى حدّ الإعدام، كالذي حدث للشاعر ابن باجة، وابن الخطيب ولم يسلم منه ابن رشد كذلك.

أنواع الفلاسفة في العصر الأندلسي

قسمٌ كان أكثر ميلًا إلى الزهد والتصوف أكثر منه إلى الفلسفة الخالصة، ولقد اتبعوا أفلوطين أمثال ابن مسرّة، وابن سبعين، وكانت تعتمد هذه النخبة على الذوق ومراقبة النفس أكثر من الاعتماد على العقل والمنطق.

ومن نهجوا نهج ارسطو، أمثال ابن باجة الذي عرف بابن الصائغ، ولكن لم يكتبوا فيه الكتب الكثيرة؛ لأن علماء وأدباء ذلك العصر اهتموا وانشغلوا بعلوم التعاليم والرياضيات، ثم جاءت الأجيال وزادوا عليه بعض من علم المنطق، وكان منهم من قال:

برَّح بي أن علوم الورى           اثنان ما إن فيهما من مزيد

حقيقة يعجز تحصيلها            وباطل تحصيله ما يفيد

أشهر فلاسفة العصر الأندلسي

ابن باجة

عُرِف ابن باجة بأنه من أشهر مفكري العصر الأندلسي، وكان له مؤلفات عديدة لكن لم تصل وتظهر جميعها في الأندلس، فكان له كتب في المنطق، وتُعَدّ رسالة الوداع من أهم مؤلفات ابن باجة التي وصلت إلى العصر الأندلسي، وكذلك كتابه تدبير المتوحد، وعرف من رسالة الوداع توضيح فضل التأمل الفلسفي، وفضل المعرفة، وهما فقط اللاتان تؤديان بالإنسان وتوصلانه إلى معرفة الطبيعة، وتعينان الفرد على فهم نفسه.

وتمّت ترجمة رسالة الوداع لابن باجة إلى اللغة العبرية، وفيها توضيح للعقل والغاية والمراد الحقيقي من وجود الإنسان في هذا الكون، وما هو الهدف الأساسي من العلم، وهي التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وفي هذه الرسالة أيضًا آرائه في تآلف واتحاد النفوس، وأخذها عنه ابن رشد وأطلق عليها اسم رسالة الوداع، ولابن باجة قصائد فلسفية عديدة نذكر منها ما يلي:

يا باكيًا فرقة الأحباب عن شحَط          هلَّا بكيت فراق الروح للبدن

نور تردد في طين إلى أجل             فانحاز علوًا وخلى الطين للكفن

يا شد ما افترقا من بعد ما اعتلقا       أضنها هدنة كانت على دخن

إن لم يكن في رضا الله اجتماعها       فيا لها صفقة تمت على غَبَن

وقوله أيضًا:

ما كل من شم نال رائحة           للناس في ذا تبائن عجب

قوم لهم فكرة تجول بهم         بين المعاني أولئك النجب

وفرقة في القشور قد وقفوا      وليس يدرون لب ما طلبوا

لا يتعدى امرؤ جبلَّته           قد قسمت في الطبيعة الرتب

بنو زهر

عُرِف عن بني زهر أنهم من أشهر وأبرز فلاسفة العصر الأندلسي، وهم ستة كانوا سلسلة من الأطباء المعروفين في الأندلس، الجد الأكبر محمد بن مروان بن زهر، وكان مشهورًا بالطب زيادة على الأدب والفقه، ولقد كان كثير التنقل بين الأندلس والقاهرة، ثم ابنه أبو العلاء وتعلم من أبيه الطب واشتغل به، وكان على صلة كبيرة بأمراء بني عباد، ثم ابنه أبو مروان بن أبي العلاء وتعلم أيضًا الطب عن أبيه، وكان بينه وبين ابن رشد علاقة صداقة قوية، ثم ابنه أبو بكر محمد بن عبد الملك، وترك رسالة في طب العيون، ثم ابنه أبو محمد عبد الله، وكان من أمهر الأطباء وأشهرهم.

ابن طفيل

كان موظفًا في دولة الموحدين، وعرف أنه من أشهر الأطباء وأبرعهم، وعرف له رسالة حي بن يقظان، ونسبت إليه آراء الفلك، واقتبس فكرة واسم رسالته من ابن سينا، وكان واضح أنه متأثرًا كثيرًا بالأفلاطونية الحديثة.

نستنتج في النهاية أن الحركة الفلسفية كانت متأخرة في العصر الأندلسي، ويعود سبب ذلك إلى بعد الأندلس عن مركز الحضارة الإسلامية والفلسفة، وبعدها عن سيادة التيارات وسيطرتها، وكان الفلاسفة قليلين في الأندلس على عكس المشرق العربي.


شارك المقالة: