أنتج العهد العباسي العديد من أهل الشعر البارزين الذين رفعوا الأدب في تلك الفترة وطوروه وأحدثوا مواضيع في المواضيع القديمة، ومنها الوصف فلقد تأثروا بمتغيرات العصر وراحوا يصورون كل ما يقع عليه نظرهم، فالمُحيط والبيئة التي حوله كانت تشحذ أفكارهم، فيُبدعوا في الإنتاج من خلال الرؤية العينية المتأنية للمشاهد والمظاهر، وفي هذا المقال سنوضح الرؤية الوصفية في الشعر في تلك الفترة من الزمن.
الرؤية الوصفية في الشعر العباسي
يتعلق الوصف بنقل المشهد المرئي أمام أهل الشعر إلى مشهد كلامي ينوب به المستمع عن المشهد العيني المتأني للأشياء الموصوفة، ومن أجود الوصف هو ما وصف به المشهد حتى يتوضح للسامع وكأنه يرى المشهد أمامه توضيحًا تتفاعل فيه عواطف الشاعر وتظهر للشيء الذي يصفه، وعندما لا تتجلى هذه المشاعر يكون الشاعر في هذه الحالة مجرد وسيلة ينقل ما يراه للمتلقي.
قد طال الوصف كل ما تشاهده عينُ الشاعر من أشياء مادية ملموسة أو عكس ذلك، وكان للوصف حضور في الشعر العربي، فمثلاً نراه في الهجاء يصور مساوئ الشخص الذي قام على هجائه، وفي الرثاء وصف المصيبة والألم جراء الوفاة وأيضًا وصف لأخلاق المتوفي الجيدة وغير ذلك من المواضيع.
قام قدامة بن جعفر بدراسة الوصف واعتبره جزء من مواضيع الشعر المشرقي، ويوضحه بأنه: ” الوصف إنما هو ذكر الشيء كما فيه من الأحوال والهيئات وذلك لأن أصله من الكشف والإظهار، ويقال وصف الثوب الجسم إذا نمَّ عليه ولم يستره هذا إذا اعتبرنا أن كل غرض من أغراض الشعر العربي ينطلق من فكرة الإظهار والكشف عما في النفس قبالة الموضوع الذي يقف عند معنى واحد أو غرض محدد.
إذ أغراض الشعر جميعها ربما آلت، أو انتمت إلى فن الوصف؛ لأنه في ضياء ما سبق يكون المدح وصفًا للممدوح والهجاء وصفًا للمهجو والافتخار يكون وصفًا للمفتخر، والرثاء يكون وصفًا للميت، والتشبيه وصف المحب والمحبوب، بيد أننا لابد من أن نميز بين تلك الأغراض من حيث الحالة النفسية والعاطفية والسياقة والصياغة الشعرية. “
لقد رسم لنا رواد الشعر في تلك الفترة أجمل اللوحات، ومثال عليها الشمس التي تأتي جزء من أجزاء المقطوعة دون تركيز الكلام عليها أو أن تكون مركز الحديث وأساسه، ومن الوصوف التي جاءت فيها وصف الشمس في المديح أو الرثاء وأيضًا التشبيب وغيره من الأمور، ومن هنا تكون الشمس هي الأساس في الوصف الذي بنيت عليه اللوحات الوصفية.
وقد يضع الشمس في مواضيع لا تخص الإنسان مثل وصف النبات أو الحيوانات وما إلى ذلك، دون أن يهتم بارتباط الموصوف بالشيء الذي وصفه فيه، ويكون الوصف في هذه الحالة وصفًا فنيًا يعتمد على التصوير الإبداعي للشمس كالتجسيد أو التشخيص.
تأثر أهل الشعر في بداية نضوج قدراتهم بالشمس وصار كل واحد منهم يشاهدها بمنظوره المتفرد، ومن هنا تنوعت الصور الوصفية التي رسموها للشمس، ومثال على ذلك قول ابن الرومي في وصف الورد وما يفعله في فصل الربيع والمشاهد البيئية الأخرى ومنها الشمس:
وتظهر الشمس في نشاص لنا
مثل عروسٍ تسترت حجلاً
من خَلَلِ الغيم إذا تغشَّاها
من بَعلِها بعد أن تجلاَّها
الشاعر هنا يرسم الصورة الوصفية للشَّمس أثناء غروبها التي رآها وقد ظهرت من بين الغمام العالي وكأنها عروس تختفي عن أنظار عريسها حياءً وخجلًا.
وإذا نظراً إلى الدلالات المرافقة لهذا التصوير فإن العروس ترمز إلى الطهارة والحُسن الذي يتناسب مع أول بزوع الشمس، ومن منظور آخر لغروب الشمس فإنه يتنافى مع وصف الشمس بالعروس؛ لأن ذلك يوحي بأحاسيس حزينة، اعتاد الشاعر منذ القدم على دمجها بالغروب وهذا الشعور هو الطاغي على مشاعر ابن الرومي الذي كان كثير الحزن والتشاؤم وهذه المشاعر سيطرت عليه وتمكنت منه حيث يقول في غروب الشمس:
كأن خبوء الشمس ثم غروبها
وقد جعلت في مجنح الليل تمرضُ
تخاوض عين مسَّ أجفانها الكرى
برنقُ فيها النَّومَ ثم تغمّض
ومن خلال هذه الصور لشمس نرى تأثر ابن الرومي بمن سبقه من رواد الشعر وخاصة حُميد الهلالي الذي تحدث عن الشمس أثناء الغروب بقوله:
والليل قد ظهرت نحيزته
والشمس في صفراء كالورس
فهنا ابن حميد يصور مشهد غروب الشمس وقد حلَّ الليل وظهر على الشمس الشحوب وصفرَّت حتى أصبحت تشبه نبات الورس، ونرى ابن طباطبا يصف الهلال والشمس أثناء غروبها فينشد:
ما لِلهلال ناحِلاً في المغرب
كَالننون قَد حَظت بِماء مُذهَب
أفارقته الشمس من تعتُّب
فراح نضوًا كالمريض الوصب
كأنما حلَّ به ما حل بي
من الضّنى عند فراق زينب
والشَّمس عند الجرجاني مرتبطة بالكسوف الذي أخفى أشعتها ونورها وسد الطريق أمامها للبزوغ والظهور حيث يقول:
وما سلب الشمسَ الكسوفُ ضياءَها
ولِكنَّها سُدَّت عليها المطالعُ
وكم كُربةٍ كانت وسيلة فَرحةٍ
وضُرٍّ تُرَى في حافَّتَيه المنافعُ
وليس ملوماً مَن تعالَت هُمومُه
إذا أنزلَته بالَحضِيضِ القوارِعُ
أبيات الجرجاني السابقة هي حكمة وتدل على أن الأزمات مهما كثرت وتوالت على الشخص فلا بد أن تحمل في طياتها بعض الفرح والمنفعة.
كما يصف لنا القاضي إسماعيل الهروي لشمس عند الغروب بصورة متشائمة حيث يصف الشمس بالشخص المريض ذو الوجه الشاحب المصفر يبحث عن مكان لتنعزل فيه، ويصف الدنيا بأنها تلبس الأسود حزنًا على انعزال الشمس وحدادًا على اختفاء ضوئها ويقول في ذلك:
قد اصفر وجه الشمس من خفية النَّوى
فها هي تبغى في المغارب مذهبا
بقية ضوءٍ توجت رأس شاهقٍ
وغودر منها جانبُ الأفق مذهبًا
وألبست الدنيا لفقدان ضوئها
حداداً إلى أن يطلع الفجر أشهبا
أما صور الشمس عند المغيب من خلال رؤية الثعالبي الوصفية، فيرى أن هناك علاقة بين القمر الذي يبدو كالرجل والشمس هي الأنثى التي تخجل من قدوم القمر وتختفي حياءً وخجلاً منه بقوله:
أما ترى اليوم مسكي الهواء وقد
مدَّت يدُ الشمس في حافاتها الكِللا
كأنما شمسه قد أبصرت قمري
يُربي عليها فغطَّت وجهها خجلا
وفي النهاية نستنتج أن الرؤية الوصفية عند رواد الشعر في العصر العباسي قد تنوعت ومعبرة عن المشاهد المرئية التي يراها أهل الشعر، وكان للوصف حضور بارز في النتاج المشرقي حيث تواجد في الهجاء مثلاً مصورًا سيئات الشخص، وفي الرثاء وصف للمصيبة جراء الفقد وغير ذلك، وبرز فيه العديد من رواد الشعر في تلك الفترة مثل الجرجاني وابن طباطبا.