السياسة والعواقبية والحاجة إلى الشك في فلسفة راسل

اقرأ في هذا المقال


إنّ الشكوى الشائعة ضد العواقبية هي أنّها تشجع العواقبي على فعل الشر حتى يأتي الخير، ولا بد أنّ هذه هي صلب الخلافات جافة ومجردة فهي ليست خالية من أي معنى عملي، وإذا كانت البضائع المراد تحقيقها أو الشرور التي يجب تفاديها كبيرة بما فيه الكفاية فقد لا يكون ذلك مسموحًا فحسب بل إلزاميًا لتعذيب السجناء أو إعدام الرهائن أو ذبح المدنيين، طالما لا توجد طريقة أخرى أقل تكلفة لتحقيق البضائع أو تجنب الشرور.

فلسفة راسل بين السياسة والعواقبية:

لا بد أنّ الغاية من العمل على تعذيب السجناء أو إعدام الرهائن أو ذبح المدنيين بتجنب الشرور، ليس مرفوضًا في حد ذاته فحسب حيث إنّه يشجع الأشخاص الذين لا يرحمون على ارتكاب فظائع هنا والآن من أجل بعض المثالية المتخيلة، بينما يتظاهرون لأنفسهم وللآخرين بأنّهم مدفوعون بأعلى الدوافع، ولأنّ العواقبية من حيث المبدأ ترخص فعل الشر إلى أن الخير يأتي، ففي الممارسة العملية تشجع المتعصبين على فعل الشر حتى عندما يكون الخير القادم بعيد الاحتمال.

يعلق برتراند راسل في كتابه (تم اكتشاف ثوابت لاروشيفوكولد حديثًا) أنّ: “الغرض من الأخلاق هو السماح للناس بإلحاق المعاناة دون تأنيب الضمير”، وقد مكّنت الأخلاق العواقبية بعض أتباعهم من إلحاق قدر كبير من المعاناة، ليس فقط من دون ندم ولكن في كثير من الأحيان بجو لا يطاق من العجرفة الأخلاقية.

من خلال اعتماد المنفعة المتوقعة كمعيار للعمل الصحيح يذهب راسل إلى حد ما نحو تلبية هذه الاعتراضات، ففي الممارسة العملية عندما يقترح الناس ارتكاب فظائع من أجل بعض الخير الأكبر فإنّ الأهوال عادة ما تكون مؤكدة ويكون الصالح الأكبر هو المضاربة بشكل كبير.

وفي الموازنة بين الخيارات يجب مضاعفة الخير الذي يمكن تحقيقه من خلال بعض الإجراءات الصعبة في احتمال تحقيقه والذي يكون دائمًا جزءًا من واحد وغالبًا ما يكون جزءًا صغيرًا في ذلك، ولذلك على الرغم من أنّ فعل الشر الذي قد يأتي به الخير لا يتم استبعاده من حيث المبدأ، فإنّ مُنظِّر المنفعة المتوقع أقل احتمالية لفعله في الممارسة على الأقل إذا كان صادقًا فكريًا.

الحاجة إلى الشك السياسي في فلسفة راسل:

لنفترض أنّ المجتمع غير الطبقي وهذا سيكون شيئًا جيدًا للغاية، لكن ربما لا يكون للمرء مبررًا لإطلاق النار على الرهائن لتحقيق ذلك، ويمكن للمرء أن يكون على يقين من أنّه إذا أطلق النار على الرهائن فإنّ الرهائن سيموتون، في حين أنّ احتمال أن يؤدي إطلاق النار عليهم إلى مجتمع لا طبقي هو احتمال ضعيف للغاية، علاوة على ذلك من المحتمل أن تكون هناك فرصة جيدة أو أفضل ليتمكن المرء من خلق مجتمع لا طبقي دون إطلاق النار على الرهائن.

وحتى لو كان المجتمع غير الطبقي ربما سيكون جيدًا للغاية، ولن يكون لمنظر المنفعة المتوقع أن يكون مبررًا في إطلاق النار على الرهائن لتحقيق ذلك، وقد يكون مُنظّر المنفعة المُتوقّع مُلزمًا بفعل الشر حتى يأتي الخير ولكن فقط إذا كان الخير كبيرًا، ومن المحتمل جدًا نظرًا للشر ومن غير المحتمل على الأرجح بدون الشر حيث نادرا ما يتم استيفاء هذه الشروط.

وهكذا يمكن لراسل أن يستخدم معيار المنفعة المتوقعة ضد دعاة الحرب والمتحمسين للعنف الثوري، وهم الذين وظفوا أنماطًا نفعية للتفكير لإلحاق المعاناة دون تأنيب الضمير، على سبيل المثال كان أحد أسلحته الرئيسية في جدالاته ضد البلاشفة (وهم أعضاء في فصيل الأغلبية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي والذي أعيد تسميته بالحزب الشيوعي بعد الاستيلاء على السلطة في ثورة أكتوبر عام 1917) خلال عشرينيات القرن الماضي كما كتب في مراجعة لمادية بوخارين (Bukharin) التاريخية:

“نحن لا نعرف ما يكفي عن قوانين الظواهر الاجتماعية لنكون قادرين على التنبؤ بالمستقبل بأي قدر من اليقين حتى في الخطوط العريضة الأوسع، ولهذا السبب ليس من الحكمة تبني أي سياسة تنطوي على معاناة فورية كبيرة من أجل حتى مكسب في المستقبل البعيد لأنّ المكسب قد لا يتحقق أبدًا”.

وهكذا على الرغم من الرغبة في الاشتراكية (في نظر راسل على أي حال)، كان لابد من رفض البرنامج البلشفي ليس لأسباب نفعية أو تبعية غير عقلانية فحسب، بل كانت لأسباب خطيرة لأنّها أدت إلى معاناة لا طائل من ورائها.

ومن هنا جاء الحاجة إلى الشك السياسي، وهو عنوان إحدى مقالات راسل وموضوع رئيسي في كتاباته الأخلاقية والسياسية (مقالات متشككة)، حيث تؤدي الدوغماتية إلى القسوة لأنّها تشجع الناس على المبالغة في تقدير احتمالية لتحقيق أهدافهم، وبالتالي المبالغة في الفائدة المتوقعة من سياسات الاضطهاد، فالشك أو الخطيئة كما نميل إلى القول في الوقت الحاضر هو الترياق، ومن هنا تأتي الحكمة التي وضعها راسل في فم لاروشفوكولد: “لا يهم ما تؤمن به طالما أنك لا تؤمن به تمامًا”.


شارك المقالة: