ما زالت الطبيعة بكل ما تحتويه من التضاريس والجمال هي الملهم السباق للشعراء، حيث تشحذ أفكارهم الشعرية لرسم أجمل الصور الفنية لها ولغيرها من الأغراض، ولقد تميز العديد من الشعراء وعلى مرّ العصورفي تناول جماليات الطبيعة الفتانة، وتفرّد كل شاعر بطريقته الخاصة في ذلك والتي تميزه فيها عن غيره من الشعراء.
الطبيعة في الشعر المهجري
شعراء المهجر كغيرهم من الشعراء الذين تطرقوا إلى شعر البيئة، حيث رسموه بأجمل الصور الفنية المتكاملة مندمجاً مع البيئة بكل أحاسيسهم في تصوير المشهد الجمالي للبيئة، ومثال على ذلك ما نراه مُتجلياً في وصف الشاعر شكر الله لشلال يتجوكا حيث يقول:
أحقاً أتتك بجنح الدجى
من الغاب جنيّة ساحرة
وكنت قديماً سحابة صيف
تمر بغاباتها عابرة
لذا حولتك إلى جدول
لكي تستحم بك الماكرة
فصرت وساماً بصدر الربيع
وصرت جلياً بجيد الحقول
تردد منذ قديم الدهور
صدى نغماتك كل الفصول
وإن مناظر البيئة عند شعراء المهجر كانت مناظر مُخلدة وخصوصاً إذا ارتبطت بحياة الاغتراب التي عاشها الشاعر بعيداً عن بلده باحثاً عن لقمة العيش، حيث كان يشعر بأنه جزء من أشجار بلده ونهر ووادي في بلده وأنه ابناً باراً من أبناء البيئة يرتمي في أحضانها، فيشعر بذلك أنه قد ولد من جديد، فَيستذكر طفولته فيها، ومثال على ذلك ما نظمه القروي من أبيات في قصيدته الولادة الجديدة حيث يقول فيها:
إذا الشمس يا أم لاحت هتفت
هتاف الغريب رأى الموطنا
وقبلت غرتها بالبنات
وطوقت بالساعدين الهنا
كذلك كنت أمد يدي
إلى النار طفلاً أطفل أنا؟
وإذ اكفهر جبين السماء
ونسكب أجفانها الدمع طلا
وتنشر فوق الرؤوس المظلات
لم أرض غير السحابة ظلا
وكذا كنت أعشق خوض الجداول
طفلا، فهل عدت يا أم طفلا
فأسمعني الطيور عند الصباح
جواب الطبيعة لي تنشد
بني! ولدتك طفلاً جديدا
فقل للرفاق الأولى تعهد
لقد ملأ الأرض أولادكم
وأنتم إلى الآن لم تولدوا
كما جعل شعراء المهجر البيئة كأنها إنسان يخاطب الإنسان الذي عاث فيها الخراب، حيث قطع أغصانها بمنشار ويقتل بذلك مواطن الجمال فيها من أجل مطامعه الشخصية من هذه الأغصان المقطوعة، وتأكد له أنها ستظل مصدر للفائدة حتى بعد موتها، ومثال على ذلك قول الشاعر القروي:
قد عشت أكثر منك في موتي وموتي لا يضير
قد كنت مأوى للطيور، فصرت جسراً للعبور
وعمود نور يستضاء به، وعكاز الضرير
وكانت البيئة لأهل المهجر هي الأم الرحيمة التي تعطف على أبنائها، وفي أحضانها وأصبحت علاقتهم أقوى وأمتن من صلة الدم، ومثال على ذلك ما قاله الشاعر ندرة حداد حيث يقول:
إلى غدير صغير قد كان بالقرب يجري
هويته وكأني أهوى فتاة بخدر
أزوره مستعينا على تقلب دهري
فكنت أغسل همي به وأطرح فقري
وَنراه يصور لنا فصل الخريف وَما ينتابه من الكآبة والتشاؤم في هذا الفصل، فَيربط صور الخريف وأحلامه الزاوية اليائسة حياته الكئيبة حيث يقول:
لما أطل الخريف أدركت إخفاقي
وقلت قول الأسيف سبحانه الباقي
وَنراهم يوظفون الطبيعة ويجعلون منها ساحة لطرح الاستفسارات حول الأمور التي تتعلق بالوجود الإنساني وتقتله مثل الشر وَالخير، ومثال على ذلك ما نظمه الشاعر ميخائيل نعيمة مخاطباً البحر حيث يقول:
يا بحر، يا بحر قل لي
هل فيك خير وشد
وقفت والليل داجٍ
والبحر كر وفر
فلم يجيبني بسر
وعندما شاب ليلي
وكحل الأفق فجر
سمعت نهراً يغني
الكون طي ونشر
في الناس خير وشر
في البحر مد وجزر
أما الشاعر نسيب عريضة يتحدث عن الطبيعة ويجعلها فرصة للتخلص من الكذب والتصنع والغدر والخداع حيث يقول في ذلك:
يا غاب جئناك للتعري
أنا ونفسي ولا حرام
فَليذع الغصن ما يراه
منا إذا أحسن الكلام
فهو يعتبر الطبيعة المثل الأعلى الذي يجب أن يقتدي بها الإنسان إذا قصد العيش النقي ولا يكون ذلك إلا بالاقتداء بما يراه في الطبيعة من مشاهد جمالية حيث يقول:
كن مثل بحر زاخر مرجع
للسحب ما تسكبه الأنهر
كن كالضحى يذهب في دوره
تذكرة السماء والعصر
كن مثل شمس فنحت نورها
لكل مخلوق ولا تشكر
ونرى أن شعراء المهجر تأثروا بالبيئة واندمجوا فيها، حتى أصبحوا يشعرون أنهم كيان واحد، مثال على ذلك ما نظمه الشاعر ميخائيل نعيمة في قصيدته من أنت يا نفسي، حيث يقول فيها:
إن رأيت البحر يطغى الموج فيه ويثور
أو سمعت البحر يبكي عند أقدام الصخور
ترقي الموج إلى أن يحبس الموج هديره
وتناجي البحر حتى يسمع البحر زفيره
وَتجلى هذا الإحساس والشعور واضحاً أيضاً في أبيات القروي، والتي يقول فيها:
تطلع الشمس يستبيني بهاها
وتلوح النجوم أرعى سناها
أي وادٍ لم أسامر حصاة
وهضاب ولم أباكر ذراها
وغصون ولم أرد عليها
وورود ولم أمصّ جناها
غير أني عمري قصير وفي الكون
فنون من كل حسن جديد
مثلوا لي هذا الوجود بشيء
إنني أشتهي عناق الوجود
ومن هنا نستخلص أن شعراء المنفى توجهوا إلى البيئة والحياة الفطرية التي كانوا مُغرمين بها ويشتقون إليها وخصوصاً عند الغربة والبعد عن الأوطان كما حصل مع أعضاء الرابطة بقيادة جبران خليل جبران.
الطبيعة ودورها في أدب جبران خليل جبران
إن الطبيعة الأولى التي قضى فيها جبران أيام شبابه كانت في مدينة بشرى والتي اشتهرت بجمال المناظر فيها، وكان الشاعر يلعب ويرتع في جنبات مدينة وبساتينها وما يحتويه من زهور عطرة، وَيتذكر كيف أنه كان يقطف الورود وَيقدمها لمن يحب.
وكان جبران يجلس في كهوف بلدته لوحده مستمتعاً بجمال البحر الذي كان يراقبه من أعلى، وكان يعشق صوت الناي هناك عندما كان الرعاة يهمون بالعزف فيه أثناء مراقبتهم للأغنام التي ترعى، وكان هذا الصوت يحمله إلى عالم الخيال.
واعتبر جبران الطبيعة بأنها هي الملهمة لتعلم دروس الحياة، والحب والصدق والإخلاص، كما رأى أنها قدوة للشخص، وملجأ له عند اليأس والاكتئاب والتعب ومهرباً له من أذى الناس فهو يصورها بالشخص الطيب المثالي، وَهي نموذج للخير والعطاء وتستحق أن نقتدي بها، ومن أبرز أشعاره التي نظمها في الطبيعة قوله:
أعطني الناي وغنّ
فالغنا سر الخلود
وأنين الناي يبقى
بعد أن يفنى الوجود
هل تخذت الغاب مثلي
منزلا دون القصور
فتتبعت السواقي
وتسلقت الصخور؟
هل جلست العصر مثلي
بين جفنات العنب
والعناقيد تدلت كثريات الذهب؟
هل فرشت العشب ليلا
وتلحفت الفضا
زاهدا فيما سيأتي
ناسيا ما قد مضى؟
ومن أشعاره في الطبيعة أيضاً قوله:
العيش في الغابة، والأيام لو نظمت
في قبضتي، لغدت في الغاب تنتشر
لكن هو الدهر، في نفسي له أرب
فكلما رمت غابا قام يعتذر
والتقدير سبل لا تغيرها
والناس في عجزهم عن قصدهم قصروا
وفي النهاية نستنتج أن شعراء المهجر تطرقوا إلى شعر الطبيعة، ورسموه بأجمل الصور الفنية المتكاملة والمندمجة مع الطبيعة بكل مشاعرهم وأحاسيسهم، وَتذكروا طبيعة بلادهم الخلابة وأيام الصبا فيها متحسرين على تلك الطبيعة وتلك الأيام الجميلة.