كان للشعر مكانة رفيعة في عهد بني العباس وسطع نجم رواده وأبدعوا فيه حتى ارتفعوا إلى مكانة مرموقة، ويرجع هذا للكثير من العوامل ونبدأها بتبدُل حال البشر الذين انتقلوا من الصحراء إلى المدن أيضاً من العوامل التي ساهمت في التطور هو الاندماج مع العجم، وكذلك حياة الرفاهية واقتناء القيان كل هذه أدت إلى ظهور شعر الفخر وفي هذا المقال سنوضح هذا الغرض في ذاك الوقت.
الفخر في العصر العباسي
إن المتصفح لمقطوعات الفخر لدى رواد الكلام المنظوم في العصر العباسي يجدها قليلة مقارنة مع المواضيع الأخرى وكانت في هذا العصر على هيئة مقطوعات متناثرة، ويمكن أن نعول ذلك إلى انشغال أهل الشعر بحياة الترف واللهو التي أنستهم بطولات الأجداد السابقين والتباهي بها.
لكننا نجد أصداء للفخر متداولة على ألسنة أهله في ذاك الوقت وهم من الذين ارتبطوا بالبادية ولم يتخلوا عنها، ولمّا كان التمازج والاختلاط مع العجم أصبح لكل فريق نهجه وطريقته في الفخر فأهل المشرق أخذوا يتباهون بشرف النسب وأصالة الحَسب وبِجذور أجدادهم ويتفاخرون بِالقيم ومكارم الأخلاق.
أما الأعاجم نهجوا طريقاً متشعباً في التفاخر نهجاً يتفاخرون به في قبائلهم وكذلك انتمائهم للبلاد التي قدموا إليها ونمطًا فردياً تبرز فيه مواهبهم وإبداعاتهم واتقانهم نظم المفردات.
تعريف شعر الفخر
الفخر من الأنواع التي انبعثت من فطرة الشخص ويكون التفاخر بذكر السمات الجيدة لمن يتباهى ونزع السيئة منها، وكان أغلبها بذكر القوة والشجاعة والجود والإخلاص وعراقة الحسب وغيره من الصفات والتفاخر نابع من المشاعر الجياشة والانفعال الشديد.
من هنا يركز الشخص في تفاخره على الإسهاب والتهويل وإطلاق العنان للخيال واستعمال المفردات والتراكيب القوية التي تعبر عنه بشكل سليم وواضح.
أنواع شعر الفخر في العصر العباسي
1- الفخر الفردي: أجاز العلماء والنحاة لرواد الشعراء ما لم يجيزوا لغيرهم وسمحوا لهم الخروج عن الثوابت، وعدوه من الضروريات ومن ذلك التفاخر بالمآثر والبطولات الخاصة بهم والتباهي بها بين الناس وعن ذلك قال ابن رشيق: ” ليس لأحد من الناس أن يُطري نفسه ويمدحها في غير منافرة، إلا أن يكون شاعراً، فإن ذلك جائز له في الشعر غير معيبٍ عليه. ”
والمطلع على أبيات الفخر في ذاك الوقت يُلاحظ أنها تتجه في مسربين الأول تقليدي محض يعتمد على الموروث القديم ونمط القدامى بالتباهي والتفاخر، وأكثر أهله من المشرق والآخر امتزج في محتواه كل حديث وأغلب رواده من الموالي.
ومن أبرز الصفات القديمة التي تباهى به رواد الشعر هي الشجاعة وظهرت هذه الصفة في أبيات ناهض الكلابي حيث أنشد:
أنا الخطَّار دون بني كلابٍ
وكعب إن أتيح لهم مُتاح
أنا الحامي لهم ولكل قَرْم
أخٌ حامٍ إذا جدَّ النضاحُ
أنا الليث الذي لا يزدهي
عواءُ العاديات ولا نباح
كما نرى أبو الهيذام قد بالغ في التفاخر بالشجاعة التي يتصف بها، حيث أنشد:
يقولون: الحديد أشدَّ مني
وقد يُثني الحديدُ، وما ثُنيتُ
تجنُّ الأرض إن نوديتُ باسمي
وتنهدُّ الجبال إذا كُنيت
وكم من شامتٍ بي اليوم أُنعى
ومن باكٍ عليَّ إذا نُعيتُ
أيضًا من أروع المقطوعات التي أنشدت عن التفاخر بالقوة والشجاعة ما كتبه عبد الملك الحارثي:
هأنذا يا طالبي، ساعي
مُحتضِرٌ بَزّي إلى الداعي
احمي حِمى من غاب من مذحج
ويحمدُ الشاهد إيقاعي
لا هَلِعٌ في الحرب، هاعٌ، إذا
ريَّق فيها كلُّ هَلْواع
قد باضت الحربُ على هامتي
وصمَّمتي أُذني واعي
واستودعتني مُقتلي أرقٍ
لا يضع الجَنب تهجاع
مستحصد المسّرة ذي همةٍ
ضرَّار أقوام ونفَّاع
لا توجد الغِرَّةُ منه، وإن
هيج به هيج بمنصاع
وعندما وصلت هذه المقطوعة إلى مسامع بن المعتز أُعجب بها وأجاز لصاحبها بالإتقان والبراعة حيث قال: ” اجتمعت الشعراءُ على أن هذه الأبيات ليست من نمط عصره، وأن أحداً لا يطمع في مثلها، ولعمري إن الكلام مع فصاحته وقوته، يقدّرُ من يسمعه أنه سيأتي بمثله فإذا رامه وجده أبعد من الثريا. ”
ويذهب المؤرخين إلى أن أهل المشرق توجها إلى الشجاعة في التفاخر الفردي نتيجة لغرق المولودين في حياة اللهو والشرب، ومن التباهي الفردي بالشجاعة والإقدام ما جاء على لسان أبو سعيد المخزومي حيث يتباهى بنفسه في ساحة الوغى وما ينزل بأعدائه بسبب حسامهحيث يقول:
في الخيل والخافقات الاسود لي شُغلٌ
ليس الصبايةُ والعهجاءُ من شُغُلي
ذنبي إلى الخيل كًسّري في جوانبها
إذا مشى الليثُ فيها مشى مختبل
ولي من الفيلق الجَأواء غمرتُها
إذا تقحَّمها الأبطال بالحيل
2- الفخر القبلي: ضعف التباهي القبلي في هذه الفترة كثيراً مقارنة بالعصور الأخرى ويرجع ذلك إلى اختفاء النزعة والأحزاب القبلية، وأن تباهي الشعراء بقبيلتهم يرافقه في المقابل هجاء والسخرية من أعدائهم من القبائل الأخرى، ومن التفاخر القبلي ما ورد على لسان دعبل الخزاعي الذي تفاخر بأهل اليمن وفي ذلك يقول:
وهم كتبوا بباب مروٍ
وباب الصين كانوا الكاتبينا
وهم سمَّوا سمرقندا بشمرٍ
وهم غرسوا هناك التُّبَّتينا
وفي صنم المغارب فوق رمل
تسيلُ تلولهُ سيل السفينا
وما طلبُ الكُميت طٍلابُ وترٍ
ولكنَّا لنصرتنا هُجينا
لقد علمت نزارٌ، كما قومي
إلى نصرة النبوَّة سابقين
تطهَّرَ من أفاضلنا رجالٌ
وحبُّ الله للمتهِّرينا
كما تباهى أبو تمام بقبيلته طيء ولم يكتفي بذكر كبارها بل تباهى بصفاتهم وقام على تشبيه بالأقمار المضيئة وجواهر لامعة ويقول:
أبى لي نجرُ الغوث أن أرأمَ التي
أُسبُّ بها، والنجرُ يشبههُ النجَّرُ
وهل خاب من جذماه من ضِنء طّيءٍ
عديُّ العديَّين القلمَّسُ أو عمرو
لنا غررٌ زيديةٌ أددَية
إذا نجمت ذَّت لها الأنجم الزُّهرُ
3- الفخر القومي: ظهر هذا النوع عند الموالي الذين اعتزلوا بقبائلهم وحضارتهم فأهل المشرق مقيمينفي بلادهم هم أصحاب السلطة لا يحتاجون إلى التفاخر ببلادهم، ومثال على هذا النوع ما ورد من تباهي يزيد الناقص بالفرس وغيرهم من الأعاجم حيث يقول:
أنا ابنُ كسرى، وأبي خاقان
وقيصرٌ جدَّي، وجدّي مروان
كما ظهر التباهي القومي في أبيات بشار بن برد حين قالك
ألا أيها السائلي جاهلاً
يعرفني، أنا أنفُ الكرم
نمت في الكرام بني عامرٍ
فروعي، وأصلي قريشُ العَجَم
وفي النهاية نستنتج إن الفخر قد شحَّ في الفترة العباسية بسبب اختفاء الأحزاب والعصبية القبلية، وكما برز أنواع متعددة من التفاخر والتباهي منها الفردي والقومي وغيره، وسطع نجم العديد من الشعراء في هذا الموضوع مثل أبو تمام وبشار بن برد.