علم الظواهر وفلسفة العقل

اقرأ في هذا المقال


يجب أن يكون واضحًا أن الفينومينولوجيا لديها الكثير لتقوله في مجال يسمى فلسفة العقل، ومع ذلك لم يتم ربط تقاليد الظواهر والفلسفة التحليلية للعقل بشكل وثيق، على الرغم من مجالات الاهتمام المتداخلة، لذلك من المناسب إغلاق هذا المسح للظواهر من خلال معالجة فلسفة العقل وهي واحدة من أكثر المجالات التي نوقشت بقوة في الفلسفة الحديثة.

فلسفة اللغة ودورها ببروز فلسفة العقل الظاهراتية:

بدأ تقليد الفلسفة التحليلية في وقت مبكر من القرن العشرين بتحليلات اللغة، ولا سيما في أعمال جوتلوب فريجه وبرتراند راسل ولودفيج فيتجنشتاين، ثم في مفهوم العقل في عام 1949 طور جيلبرت رايل سلسلة من التحليلات للغة حول الحالات العقلية المختلفة بما في ذلك الإحساس والإيمان والإرادة.

وعلى الرغم من أنّ رايل يعتبر بشكل عام فيلسوفًا للغة العادية إلّا أنّ رايل نفسه قال إنّ مفهوم العقل يمكن أن يسمى الفينومينولوجيا، وفي الواقع حلل رايل فهمنا الفينومينولوجي للحالات العقلية كما ينعكس في اللغة العادية حول العقل، ومن هذه الظواهر اللغوية جادل رايل بأنّ ثنائية العقل والجسد الديكارتية تتضمن خطأً في التصنيف وهذا لا يعني منطق أو قواعد الأفعال العقلية.

مع رفض رايل ثنائية العقل والجسد أعيد إيقاظ مشكلة العقل والجسد في ما هي أنطولوجيا العقل في مقابل الجسد، وكيف يرتبط العقل والجسد؟

جادل رينيه ديكارت في كتابه تأملات في الفلسفة الأولى في عام (1641) بأنّ العقول والأجساد هما نوعان متميزان من الوجود أو الجوهر مع نوعين متميزين من السمات أو الأنماط أي تتميز الأجسام بخصائص فيزيائية زمانية مكانية، بينما تتميز العقول بخصائص التفكير (بما في ذلك الرؤية والشعور وما إلى ذلك).

بعد قرون وجدت الفينومينولوجيا مع برينتانو وهوسرل أنّ الأفعال العقلية تتميز بالوعي والقصد، بينما سيجد العلم الطبيعي أنّ الأنظمة الفيزيائية تتميز بالكتلة والقوة، وفي النهاية من خلال مجالات الجاذبية والكهرومغناطيسية والكمية، فأين نجد الوعي والقصد في مجال الجاذبية الكهرومغناطيسي الكمومي الذي من خلال الفرضية يأمر بكل شيء في العالم الطبيعي الذي نعيش فيه نحن البشر وعقولنا؟ فهذه هي مشكلة العقل والجسم اليوم، وبإختصار تكمن الظواهر بأي اسم آخر في قلب مشكلة العقل والجسم المعاصرة.

فلسفة العقل الظاهراتية في خمسينيات القرن العشرين:

بعد رايل سعى الفلاسفة إلى أنطولوجيا ذهنية أكثر وضوحًا وطبيعية بشكل عام ففي الخمسينيات من القرن الماضي تمت مناقشة المادية مجددًا وحثت على أنّ الحالات العقلية متطابقة مع حالات الجهاز العصبي المركزي، وتنص نظرية الهوية الكلاسيكية على أنّ كل حالة ذهنية رمزية (في عقل شخص معين في وقت معين) متطابقة مع حالة دماغ رمزية (في دماغ ذلك الشخص في ذلك الوقت).

وبدلاً من ذلك تنص المادية الأقوى على أنّ كل نوع من أنواع الحالات العقلية متطابق مع نوع من حالات الدماغ، لكن المادية لا تتناسب بشكل مريح مع الفينومينولوجيا، لأنّه ليس من الواضح كيف يمكن للحالات الذهنية الواعية كما نختبرها – الأحاسيس والأفكار والعواطف – أن تكون ببساطة الحالات العصبية المعقدة التي تدعمها أو تنفذها بطريقة ما، فإذا كانت الحالات العقلية والحالات العصبية متطابقة ببساطة في شكل رمزي أو في النوع فأين تحدث الظواهر في نظريتنا العلمية للعقل، ألا يتم استبدالها ببساطة بعلم الأعصاب؟، ومع ذلك فإنّ الخبرة جزء مما يجب أن يفسره علم الأعصاب.

فلسفة العقل الظاهراتية في الستينيات والسبعينيات القرن العشرين:

في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بدأ نموذج الكمبيوتر للعقل وأصبحت الوظيفية هي النموذج السائد للعقل، حيث في هذا النموذج يكون العقل ليس ما يتكون منه الدماغ (المعاملات الكهروكيميائية في الخلايا العصبية في المجمعات الشاسعة)، وبدلاً من ذلك يكون العقل هو ما تفعله الأدمغة أي وظيفتها في التوسط بين المعلومات الواردة إلى الكائن الحي والسلوك الصادر من الكائن الحي.

وبالتالي فإنّ الحالة العقلية هي حالة وظيفية للدماغ أو للكائن الحي (أو الحيوان)، وبشكل أكثر تحديدًا في الاختلاف المفضل للوظيفة يكون العقل نظامًا حسابيًا أي العقل هو الدماغ كما البرمجيات للأجهزة، والأفكار هي مجرد برامج تعمل على “البرامج الرطبة” في الدماغ.

منذ سبعينيات القرن الماضي اتجهت العلوم المعرفية – من الدراسات التجريبية للإدراك إلى علم الأعصاب – نحو مزيج من المادية والوظيفية، ومع ذلك وجد الفلاسفة تدريجيًا أنّ الجوانب الظاهراتية للعقل تطرح مشكلات للنموذج الوظيفي أيضًا.

في أوائل السبعينيات جادل توماس ناجل في “ما معنى أن تكون خفاشًا؟” عام (1974) أنّ الوعي نفسه – وخاصة الطابع الذاتي لما يعنيه أن يكون لديك نوع معين من الخبرة – يفلت من النظرية الفيزيائية، وضغط العديد من الفلاسفة على القضية القائلة بأنّ الجودة الحسية – ما يعنيه الشعور بالألم، ورؤية اللون الأحمر، وما إلى ذلك – لا يتم تناولها أو تفسيرها من خلال حساب مادي لبنية الدماغ أو وظيفة الدماغ فللوعي خصائص خاصة به، ومع ذلك نعلم أنّه مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالدماغ، وفي مستوى معين من الوصف تنفذ الأنشطة العصبية الحساب.

فلسفة العقل الظاهراتية في الثمانينيات القرن العشرين:

في الثمانينيات جادل جون سيرل في كتابه القصدية (1983) (وكذلك في إعادة اكتشاف العقل (1991)) أنّ القصدية والوعي هما من الخصائص الأساسية للحالات العقلية، وبالنسبة لسيرل تنتج أدمغتنا حالات عقلية لها خصائص الوعي والقصد وهذا كله جزء من بيولوجيتنا، ومع ذلك يتطلب الوعي والقصد أنطولوجيا “الشخص الأول”.

كما جادل سيرل أيضًا بأنّ أجهزة الكمبيوتر تحاكي ولكن ليس لديها حالات عقلية تتميز بالقصد، وأيضاً جادل سيرل بأن نظام الكمبيوتر يحتوي على بناء جملة (رموز معالجة لأشكال معينة) ولكن لا يحتوي على دلالات (تفتقر الرموز إلى المعنى أي نحن نفسر الرموز)، وبهذه الطريقة رفض سيرل المادية والوظيفية بينما أصرّ على أنّ العقل هو خاصية بيولوجية لكائنات مثلنا أي أدمغتنا “تفرز” الوعي.

يعتبر تحليل الوعي والقصدية مركزيًا للظواهر كما تم تقييمها أعلاه وتقرأ نظرية سيرل عن القصدية كنسخة حديثة من نظرية هوسرل، ( حيث تأخذ النظرية المنطقية المعاصرة شكل بيان شروط الحقيقة للافتراضات، ويميز سيرل قصدية الحالة العقلية من خلال تحديد “شروط الرضا” الخاصة بها).

ومع ذلك هناك اختلاف مهم في نظرية الخلفية، فبالنسبة لسيرل يفترض صراحة النظرة العالمية الأساسية للعلم الطبيعي معتقدًا أنّ الوعي جزء من الطبيعة، لكن هوسرل يضع هذا الافتراض بين قوسين صريحًا، ويبدو أنّ علماء الظواهر اللاحقة – بما في ذلك هيدجر وسارتر وميرلو بونتي – يبحثون عن ملاذ معين للظواهر التي تتجاوز العلوم الطبيعية، ومع ذلك يجب أن تكون الفينومينولوجيا نفسها محايدة إلى حد كبير بشأن المزيد من النظريات حول كيفية نشوء التجربة لا سيما من نشاط الدماغ.

منذ أواخر الثمانينيات وخاصة أواخر التسعينيات ركز مجموعة متنوعة من الكتاب العاملين في فلسفة العقل على السمة الأساسية للوعي وهي في النهاية قضية ظاهرية، أي هل يتضمن الوعي دائمًا وبشكل أساسي وعيًا بالذات، أو وعيًا بالوعي، وكما قال برينتانو وهوسرل وسارتر (بتفاصيل مختلفة)؟ إذا كان الأمر كذلك فإنّ كل فعل من أفعال الوعي إما يتضمن أو مجاورًا بوعي من هذا الوعي.

فهل يتخذ هذا الوعي الذاتي شكل مراقبة ذاتية داخلية؟ فإذا كان الأمر كذلك فهل تلك المراقبة ذات ترتيب أعلى حيث يتم ربط كل فعل من أفعال الوعي بفعل عقلي آخر يراقب الفعل الأساسي؟ أم أنّ مراقبة نفس الترتيب مثل الفعل الأساسي جزء مناسب من الفعل الذي بدونه لن يكون الفعل واعيًا؟ وتم تطوير مجموعة متنوعة من نماذج هذا الوعي الذاتي بحيث بعضها يعتمد بشكل صريح على وجهات النظر في Brentano و Husserl و Sartre أو يتكيف معها، وتتناول مجموعتان حديثتان هذه القضايا هما: David Woodruff Smith و Amie L.

تخصصات ضمن فلسفة العقل:

يمكن إدراج فلسفة العقل في التخصصات التالية أو نطاقات النظرية ذات الصلة بالعقل:

  1. تدرس الظواهر التجربة الواعية على أنها خبرة، وتحلل البنية – الأنواع، والأشكال والمعاني المقصودة، والديناميكيات، وظروف التمكين (المؤكدة) – للإدراك والفكر والخيال والعاطفة والإرادة والعمل.
  2. يدرس علم الأعصاب الأنشطة العصبية التي تعمل بمثابة ركيزة بيولوجية لأنواع مختلفة من النشاط العقلي، بما في ذلك الخبرة الواعية، وسيتم وضعها في إطار علم الأعصاب من خلال علم الأحياء التطوري (شرح كيف تطورت الظواهر العصبية) وفي النهاية من خلال الفيزياء الأساسية (شرح كيف ترتكز الظواهر البيولوجية على الظواهر الفيزيائية)، وهنا تكمن تعقيدات العلوم الطبيعية، حيث جزء مما تعتبر العلوم مسؤولة عنه هو هيكل الخبرة الذي يتم تحليله بواسطة الظواهر.
  3. يدرس التحليل الثقافي الممارسات الاجتماعية التي تساعد في تشكيل أو العمل كركيزة ثقافية لأنواع مختلفة من النشاط العقلي، بما في ذلك الخبرة الواعية والتي تظهر عادة في الفعل المتجسد، وهنا ندرس استيراد اللغة والممارسات الاجتماعية الأخرى، بما في ذلك المواقف أو الافتراضات الخلفية التي تنطوي أحيانًا على أنظمة سياسية معينة.
  4. تدرس أنطولوجيا العقل النوع الأنطولوجي للنشاط العقلي بشكل عام، بدءًا من الإدراك (الذي يتضمن مدخلات سببية من البيئة إلى التجربة) إلى الفعل الإرادي (الذي يتضمن ناتجًا سببيًا من الإرادة إلى الحركة الجسدية).

يمكن اعتبار هذا التقسيم للعمل في نظرية العقل امتدادًا لتمييز برينتانو الأصلي بين علم النفس الوصفي والجيني، بحيث يقدم علم الظواهر تحليلات وصفية للظواهر العقلية، بينما يقدم علم الأعصاب (وعلم الأحياء الأوسع وفي النهاية الفيزياء) نماذج لتفسير أسباب الظواهر العقلية أو التي تؤدي إلى ظهورها، وتقدم النظرية الثقافية تحليلات للأنشطة الاجتماعية وتأثيرها على التجربة بما في ذلك الطرق التي تشكل بها اللغة أفكارنا وعاطفتنا ودوافعنا، وتأطير الأنطولوجيا كل هذه النتائج ضمن مخطط أساسي لهيكل العالم بما في ذلك عقولنا.

تم تفصيل التمييز الأنطولوجي بين شكل ومظهر وركيزة نشاط الوعي في د. دبليو سميث عالم العقل (2004) في مقال “ثلاثة جوانب للوعي”.

في هذه الأثناء من وجهة نظر معرفية تبدأ كل هذه النطاقات من النظريات حول العقل بكيفية ملاحظتنا والتفكير في والسعي لشرح الظواهر التي نواجهها في العالم ومن هنا تبدأ الفينومينولوجيا، وعلاوة على ذلك كيف نفهم كل جزء من النظرية، بما في ذلك النظرية حول العقل هو أمر أساسي لنظرية القصد كما كانت دلالات الفكر والتجربة بشكل عام وهذا هو قلب الفينومينولوجيا.


شارك المقالة: