اقرأ في هذا المقال
أناكسارخوس (Anaxarchus) هو فيلسوف يوناني قديم، ولد في عام ٣٨٠ وتوفي في عام ٣٢٠ قبل الميلاد.
نظرة عامة لفلسفة أناكسارخوس:
بصفته من أتباع الفيلسوف اليوناني ديموقريطس طور أناكسارخوس الميول المتشككة داخل فكر ديموقريطس، ويعد شخصية محورية تربط بين ذرية ديموقريطوس وشكوك بيرهو، ويُزعم أنّه ألغى معيار الحقيقة من خلال تشبيه تجاربنا بتجارب الحالمين والمجانين، واشتهر برضاه وحصل على لقب رجل السعادة (ho eudaimonikos)، ومثل بيرهو كانت هذه القناعة قائمة على اللامبالاة بقيمة الأشياء من حوله، ولكن على عكس بيرهو لم تتجلى هذه اللامبالاة في الانفصال عن الشؤون الدنيوية، بل بدلاً من ذلك كان مستشارًا للإسكندر الأكبر وسعى بنشاط لتحقيق أهداف رغباته وغالبًا ما كان يتجاهل القيم التقليدية.
الحياة والمصادر الفلسفية المتوفرة:
كان أناكسارخوس رفيقًا مقربًا للإسكندر الأكبر ويقال إنّه رافق بيرهو في رحلة الإسكندر إلى الهند، وعلى ما يبدو وبخ الفلاسفة الهنود أناكسارخوس لأنّه تملق الملوك، وكان هذا التوبيخ هو الذي دفع بيرهو إلى الانسحاب من الشؤون الدنيوية، وأيضًا على عكس بيرهو كان أناكسارخوس مغرمًا بالرفاهية، ومع ذلك فقد اشتهر بجماله وقدرته على أن يكون سعيدًا تحت أي ظرف من الظروف.
هذا الجمود هو موضوع العديد من الحكايات عنه وأكثرها دراماتيكية في قصة وفاته التي انتشرت على نطاق واسع، حيث لم يكن قادرًا على الالتفات إلى عذابه لأنّه كان يُضرب حتى الموت بقذيفة هاون بأوامر من طاغية أهانه، ومع ذلك يُقال أيضًا إنّ الفيلسوف اليوناني القديم زينو إيليا مات بهذه الطريقة لذا فإن القصة مشبوهة إلى حد ما.
لم تنجو أي أعمال فلسفية للأناكسارخوس، ولا يوجد سوى الاقتباسات المباشرة من أعماله وعدد قليل من التقارير المتعلقة بمواقفه الفلسفية أو الحجج لصالحها، وتأتي معظم معلوماتنا عن أناكسارخوس في شكل حكايات ملونة وردت في مصادر لاحقة بكثير تتعلق بتفاعلاته مع الإسكندر وبيرهو، وغالبًا ما تكون هذه القصص خاطئة حيث يتم تأليفها لإثبات بعض النقاط (المفترض) روح الدعابة أو التنوير.
من الواضح أنّ الاعتماد على الحكايات المشكوك فيها من أجل إعادة بناء فلسفة شخص ما هو أقل من المثالية، لكنه ليس ميؤوسًا منه لأنّ هذه الحكايات المزيفة غالبًا ما تكون مؤلفة من أجل تقديم توضيحات مناسبة ومسلية لنقطة أو موقف فلسفي للشخص المعني، و حتى يمكن استخدامها كدليل على فلسفة الشخص، على سبيل المثال أفاد بلوتارخ أنّ أناكسارخوس أخبر الإسكندر أنّ هناك عددًا لا حصر له من العوالم، مما تسبب في يأس الإسكندر من أنّه لم يغزو حتى واحدًا.
من شبه المؤكد أنّ هذه المحادثة لم تحدث أبدًا، وبدلاً من ذلك تم اختراعه لإعطاء فكرة دقيقة عن نهم الطموح، وهذا يعني أنّه حتى الإسكندر أقوى رجل في العالم لم يستطع تحقيق كل ما كان يرغب فيه، وإذا كان الأمر كذلك ألن تكون أفضل حالًا في تكييف رغباتك مع العالم، بدلاً من الانخراط عبثًا تسعى جاهدة من أجل ثني العالم لرغباتك التي لا حدود لها؟
ومع ذلك فإنّ وجود عدد لا حصر له من العوالم هو سمة أطروحة مميزة فقط للذرات في العصور القديمة، ولذا فإنّ هذه الحكاية تعطينا دليلًا على أنّ أناكسارخوس كان يُنظر إليه على أنّه عالم ذري، منذ وضع هذه الملاحظة في فم على سبيل المثال أرسطو الذي يعتقد أنّ عالمًا واحدًا فقط موجود ولن يكون له أي معنى، ومع ذلك وبسبب قلة المصادر المتوفرة فإنّ أي استنتاجات تتعلق بفلسفة أناكسارخوس ستكون بالضرورة سطحية ومبدئية.
نظرية المعرفة لدى أناكسارخوس:
اتُهم أناكسارخوس بإلغاء معيار الحقيقة لأنّه شبه الأشياء بالمناظر المرسومة وقال إنّها تشبه تجارب الحالمين والمجانين، ويشير هذا إلى أنّ الأشياء التي نتعرف عليها في التجربة العادية مثل الأشجار والصخور هي مجرد تمثيلات مثل المناظر الطبيعية المرسومة وليست الأشياء نفسها على الإطلاق، وعلاوة على ذلك لا يمكن الاعتماد على هذه التجارب للوصول بنا إلى الحقيقة، حيث لسنا في وضع أفضل من الحالمين والمجانين فالأشخاص الذين تجاربهم خاطئة بشكل نموذجي (أو على الأقل غير جديرة بالثقة).
النقاط المذكورة أعلاه ليست سوى استنتاجات أناكسارخوس المعرفية وليست أسبابًا لها، ويمكن إعطاء عمليتي إعادة بناء مختلفتين على الأقل لمنطق أناكسارخوس ففي الأول يقدم أناكسارخوس حجة من فرضية متشككة، وتستمر مثل هذه الحجج من الفرضيات المتشككة بحيث تبدأ باقتراح بعض الفرضيات المتشككة، على سبيل المثال أنك دماغ في وعاء أو أنّ العالم قد تم إنشاؤه قبل خمس دقائق بالضبط.
ثم تجادل بعد ذلك بأنك لا تعرف ما إذا كانت هذه الفرضية المتشككة صحيحة أم لا، وعادة لأنّ وضعك في ظل الفرضية المتشككة لا يمكن تمييزه، بقدر ما تستطيع أن تقول عن الموقف الذي تعتقد أنّه يحدث عادة، وثم يتم استخلاص العديد من الاستدلالات المتشككة من هذا، وبما أنك لا تعرف أنّ الفرضية المتشككة لا تصدق فأنت غير مبرر، على سبيل المثال في الوثوق بأدلة الحواس أو ذاكرتك، وفي عملية إعادة البناء هذه تعمل مقارنات أناكسارخوس كفرضيات متشككة.
تنقل الأسطح ثنائية الأبعاد للمشهد المطلي بشكل وهمي نفس النوع من الانطباع عن عالم ثلاثي الأبعاد كما هو الحال مع انطباعاتنا العادية، وولكن نظرًا لعدم قدرتنا على التمييز بين الانطباعات المضللة التي تنتجها اللوحات المسرحية والانطباعات الحقيقية (المفترضة) التي تنقلها حواسنا بشكل طبيعي، لا يمكننا معرفة ما إذا كانت الفرضية المتشككة صحيحة وبالتالي لا ينبغي أن نثق في أدلة الحواس.
وبالمثل فإنّ الانطباعات التي نتلقاها أثناء النوم أو التي يتلقاها المجانين لا يمكن تمييزها عن انطباعات الحس العادية، ولكن إذا كان الأمر كذلك فلا يمكننا الوثوق في الحواس، وإذا كان هذا صحيحًا فإنّ حجة أناكسارخوس هي توقع مثير للحجة الأكثر شهرة من الفرضية المتشككة، وحجة ديكارت الحلم في التأملات ضد مصداقية الحواس.
في إعادة البناء الثانية تمثل المقارنات إيضاحات حية لمأزقنا المعرفي، ولكنها ليست في حد ذاتها أساسًا لاستنتاجات أناكسارخوس المتشككة، وبدلاً من ذلك فهو يستمد أصوله من تراثه الديمقراطوس، حيث يقول ديموقريطوس إننا لا نعرف شيئًا حقيقيًا عن الأشياء الموجودة في العالم الخارجي، ولكن فقط عن التأثيرات التي تحدثها على أجسادنا.
علاوة على ذلك فإنّ المعلومات التي تنقلها حواسنا حول هذه الأشياء مضللة بشكل منهجي، فقد يظهر نفس الشيء باللون الأصفر لشخص واحد والرمادي لشخص مصاب بعمى الألوان، ولكن كلا التقريرين الحسيين خاطئان، لأنّ صفات مثل الصفرة والرمادي والحلاوة ليست موجودة بالفعل في الأشياء نفسها على الإطلاق، وكما قال ديموقريطوس في مقال مشهور: “بالمقابل حلو ومرير بالاتفاقية وحار بالاتفاقية وبارد بالاتفاقية، هناك لونًا تقليديًا: في الواقع الذرات والفراغ”.
نتيجة لذلك تعطي الحواس معرفة غير شرعية فقط، وهذا يجعل ديموقريطس يستنتج أنّ الوصول إلى معرفة العالم أمر صعب للغاية وربما مستحيل، وعلى الرغم من أنّ مداها الدقيق مثير للجدل إلّا أنّه لا شك في وجود إجهاد شديد من الشك في ديموقريطس.
وقد تم تطوير هذه السلالة بشكل أكبر من قبل بعض أتباعه مثل ميترودورس الذي يُزعم أنّه معلم أناكسارخوس، ويبدو أنّه يعتقد أنّ سقراط كان متفائلاً للغاية عندما قال أنّ الشيء الوحيد الذي يعرفه هو أنّه لا يعرف شيئًا، ويؤكد ميترودورس أننا لا نعرف شيئًا ولا حتى أننا لا نعرف شيئًا، ويعد أناكسارخوس هو عضو آخر في هذه المجموعة، حيث بسبب عدم موثوقية الحواس لسنا أفضل حالًا من الحالمين والمجانين عندما يتعلق الأمر بوصولنا إلى الحقائق حول العالم، وبالتالي لا يوجد معيار يمكننا بموجبه التمييز بين ما هو موجود وما هو غير موجود.