اقرأ في هذا المقال
اهتم شعراء الأندلس بالطبيعة الأندلسية، كانت الطبيعة الأندلسية هي الملهم الأول لشعراء الأندلس، وقد شحذت قرائح الشعراء لنظم أجمل وأروع الشعر في تضاريسها الخلابة، ونجد الشاعر الأندلسي يصور الرياض والبساتين والجبال والسهول والورود، كذلك الطيور المغردة، فهي عبارة عن جنة الله على الأرض، وقد توجه الشعراء إلى المياه والبحار والأنهار، فصوروها بأجمل وأرق الصور، وفي هذا المقال سنتناول الشعر الذي نظم بالمائيات الطبيعية التي خصَّ الله بها الأندلس.
الطبيعة الأندلسية في الشعر الأندلسي
خصَّ الله الأندلس بكثرة الأنهار والبحار والأودية، وكذلك الجداول التي كانت تمرّ على الأراضي القاحلة، وتحولها إلى جنة خضراء، وتحولها إلى رياض وبساتين غنَّاء، وقد نشأت أغلب المدن الأندلسية على ضفاف الأنهار، مثل مدينة غرناطة، ومدينة إشبيلية، وطليطلة، وغيرها من المدن، ومن المعروف عن الأندلس أن الماء يحدها من ثلاث جهات، فكانوا يتواصلون مع العالم الخارجي من خلال بحارها.
وكان القادم إلى أرض الأندلس لا يحمل الماء معه في سفره؛ لأنه لا يحتاجه وهو في الأندلس لكثرة المياه فيها والأنهار والسواقي، وقد كانت هذه المائيات الملهم الأول لشعراء الأندلس، وكان الشعر الأندلسي عبارة عن صدى لطبيعة الأندلس.
وقد دخلت الأنهار إلى القصور الفاخرة، وزينوا قصورهم بها وكذلك مدنهم، وأنشأوا على ضفاف الأنهار المجالس يلهون ويتسامرون على هذه الضفاف، وقاموا بتزين الماء من خلال أنشاء النوافير الرائعة، التي كانت تلهم الشاعر وتدفعه لنظم الشعر.
ولم تكن الطبيعة هي الدافع الوحيد لتطور الأدب وازدهار الشعر، إنما دور الملوك والأمراء واضح من خلال الأموال والهدايا والعطايا التي كانوا يغدقونها على الشعراء لدفعهم وتشجيعهم لنظم الشعر، وكذلك دور الشعب الأندلسي في ازدهار الأدب لما عرف عنهم من إحساس مرهف، ومتذوقين للجمال، فكانت كل هذه الدوافع سبب رئيسي لاهتمام الشعراء لنظم الشعر بجميع أغراضه.
والشاعر الأندلسي كان يلجأ إلى مزج مشاعره والتحليق بخياله في سماء الإبداع والتطور، وكانوا يتوجهون إلى الطبيعة في شعرهم للوصول إلى الغاية التي من أجلها نظم شعره، فكان يرى جمال البيئة الأندلسية في محبوبته فالوردة الحمراء كانت تذكره بوجناتها، وكذلك ميلان الأغصان والأشجار يذكره بجسدها، ولم يترك الشاعر الأندلسي المائيات، إنما وظفها في شعره فيصف فيها ممدوحة.
المائيات الطبيعية في الأندلس
إن الطبيعة الخلابة التي يتمتع بها الأندلس سواء كانت رياض خضراء أو بساتين غنَّاء هي أساسها المياه المتوفرة في أرضها، وعرف عن الأندلس غزارة الأمطار، وكثرة الأنهار والجداول والبحار، وكل هذه النعم كانت السبب الرئيسي لإلهام الشعراء والأدباء ودفعهم إلى الإبداع، فكان الشاعر يرسم لنا لوحة فنية مستمد ألوانها من الطبيعة الخلابة، وهذا الشاعر ابن حمديس العقلي ينظم شعرًا وصفًا فيه جمال بركةٍ كانت تحيطها تماثيل الأسود وكانت المياه تخرج من أفواه هذه الأسود فيقول:
وضراغم سكنت الماء عرين رئاسةٍ
تركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشى النُّضار جسومها
وأذاب في أفواهها البلورا
أسد كأن سكونها متحرك
في النفس لو وجدت هناك مثيرا
وتخالها الشمس تجلو لونها
نارًا وألسُنها اللواحس نورا
المائيات الأرضية في الشعر الأندلسي
البحر: تعددت نظرة الشعراء للبحر، فمنهم من يرى في البحر هو ذاك الصديق الذي يبث إليه أسراره وأحزانه، ومنهم من يرى فيه ذاك العدو الغدار فكانوا يخافون منه، ومن ظلماته وأهواله التي لا تميز بين العدو والصديق، تناول الشاعر الأندلسي البحر في أشعاره ونظم فيه أبيات من الشعر، ولكن لم يعرف لهم تفرد البحر بقصيدة متفردة وكثر ذكر البحر في شعر المدح، وكذلك الفخر، والرثاء، ولن ننسى الغزل.
ولم يكن للبحر مكانة رفيعة في شعر الأندلسيين، كغيره من عناصر طبيعية، وربما يرجع ذلك إلى خوف الشعراء من غدر وأهوال البحار، وما ألحقته من أذى ببعض الناس، وفي ذلك يقول يحي بن حكم الغزال، واصفًا تجربته في رحلة بحرية قام بها، يلخص ما حلَّ به من خوف وأهوال في البحر هو وصاحبه ويصور مدى خوفهم وتشبثهم بالحياة فيقول:
قال لي يحيى وصرنا
بين موج كالجبال
وتولتنا رياحٌ
من دبورٍ وشمال
شقت القلعين وأنبتت
عُرى تلك الجبال
وتمطى ملك الموت
إلينا عن حيال
فرأينا الموت رأى
العين حالًا بعد حال
لم يكن للقوم فينا
يا رفيقي رأس مال
النهر: فُتن شعراء الأندلس بالأنهار، وتناولها في أغلب أشعارهم، وكان المطلع على دواوينهم وأشعارهم يلاحظ أنهم يعيشون في بيئة مليئة بالأنهار والجداول، كما قاموا بتزيين قصورهم من خلال إدخال هذه الأنهار إلى قصورهم، وعمل منها النوافير المحاطة بالتماثيل، وكذلك إقامة مجالس اللهو والسمر على ضفاف هذه الأنهار، كما أن غالبية المدن في الأندلس كانت قائمة على ضفاف الأنهار الأندلسية.
من الأنهار الأندلسية التي تم ذكرها في شعر شعراء الأندلس نهر طرطوشة وهو نهر عظيم ينحدر من الجبال الأندلسية لينصب في مدينة طرطوشة، ونهر مرسية وهو جزء من نهر إشبيلية العظيم وكذلك نهر إشبيلية العظيم الذي تنصب فيه أنهار كثيرة، وغيرها من الأنهار العديدة، ومن أجمل ما نظم في أنهار الأندلس ما قاله ابن خفاجة في قصيدته:
يا أهل أندلس لله دركم
ماءٌ وضلٌ وأنهارٌ وأشجار
ما جنة الخلد إلا في دياركم
وهذه كنت لو خيرت أختار
لا تتقوا بعدها أن تدخلوا سقرًا
فليس تدخل بعد الجنة النار
وقوله وهو يتغنى بأنهار الأندلس والمياه الجارية فيها، ما تحمله من أحزان اليوم الذي مّر به، ويسرح بخياله بين الأمواج، ويصف جمال النهر حيث يقول:
لله نهرٌ سال في بطحاء
أشهى ورودًا من لمى الحسناء
متعطفٌ مثل السوار كأنه
والزهر يكنفه مجرٌ سماء
قد رق حتى ظن قرسًا مُفرغًا
من فضةٍ في بردةٍ خضراء
وغدت تحف به الغصون كأنها
هدتٌ تحف بمقلةٍ زرقاء
وتفردت هذه الأبيات ووصفت جمال النهر، وبدأ الشاعر قصيدته بأسلوب التعجب من منظر النهر وجماله وصوره لنا بأروع الصور والتشبيهات، وعرف عن ابن خفاجة الأندلسي براعته في شعر وصف الطبيعة بشكل عام وشعر وصف الأنهار بشكل خاص، وكان يستخدم شعر وصف الأنهار ويتحدث عن جمال محبوبته من خلالها، وكان الشاعر يقف أمام هذه الأنهار مفتوناً بجمالها، ويرى محاسن محبوبته الحسناء بمياه تلك الأنهار.
وفي النهاية نستنتج أن الطبيعة الأندلسية الخلابة في كافة التضاريس الموجودة فيها كانت هي الملهم الأول لشعراء الأندلس، فتوجهوا إلى وصف المائيات كالأنهار والبحار والبِرك في أشعارهم، فنظموا في مائيات الأندلس أجمل الأشعار والدواوين، وتغنوا بجمال محبوبتهم من خلال هذا الشعر، وبرز فيه العديد من الشعراء.