ما هو واضح هو أنّ الفيلسوف روجر بيكون كان مفكرًا مبتكرًا وعالمًا شجاعًا، ولا يخشى تحدي المعتقدات الحالية حول الفلسفة والعلوم والدين، وكانت كتاباته واسعة النطاق وربما تمت دراستها بشكل مكثف أكثر من كتابات جروسيتيست.
نقد التعليم الجامعي:
شمل نقد التعلم الجامعي الذي طوره بيكون في العديد من كتاباته الفلسفة وكذلك اللاهوت، ووفقًا لبيكون لا الفلسفة ولا اللاهوت في عصره يجسدان بشكل كاف الحكمة التي أعلنها الله للبشرية، وعلى العكس من ذلك في كل من الفلسفة واللاهوت لاحظ بيكون العديد من الأخطاء والثغرات وأشكال الفساد، وبالتالي فهو لم يتراجع عن شجبهم ولا يتردد في اتهام العلماء الأفراد بالمساهمة في زوال التعلم.
أمّا فيما يتعلق بمحتوى المناهج على سبيل المثال انتقد بيكون التأكيد الخاطئ على المنطق ونوع معين من القواعد ودعا بدلاً من ذلك إلى التركيز على البلاغة ودراسة اللغات الأجنبية، وفي العديد من كتاباته وأبرزها في العمل العظيم (Opus Maius) والخلاصة الوافية لفلسفة التأسيس (Compendium Studii Philosophiae) وخلاصة وافية لدراسات اللاهوت (Compendium Studii Theologiae) وقدّم أمثلة على الجهل والفساد والخطأ.
امتد نطاق نقده للتعلم إلى ما وراء الأكاديمية أيضًا، ورسم بيكون صلات بين الوضع في الأكاديمية وحالة الشؤون في المجتمع لأنّه لم يعتبر هذين المجالين منفصلين بل مرتبطين بشكل وثيق، وكثيرًا ما ذكر بيكون أنّه على ضوء الحكمة تحكم كنيسة الله، وتنظم جمهورية المؤمنين وتحقق اهتداء الكفار وأولئك الذين يتسمون بالعناد في خبثهم، ويتمايلون بشكل أكثر فاعلية نحو أهداف الكنيسة من خلال قوة الحكمة من سفك الدم المسيحي.
بعد ذلك اعتقد بيكون أنّ الهدف النهائي للقضاء على الأخطاء الأكاديمية يمتد إلى تحسين المجتمع، ورأى بيكون أنّ الممارسة الأكاديمية غير المجدية والعديمة الجدوى كانت سبب فساد الكنيسة في الكبرياء والجشع والشهوة، بالإضافة إلى ذلك لم يعف بيكون الحكام الدنيويين من النقد.
أشار بيكون في كتابه العمل العظيم إلى أربعة أسباب للخطأ وهي:
- مثال السلطات غير الموثوقة وغير الملائمة.
- طول مدة العادة.
- رأي الجهلاء.
- نزوع البشر لإخفاء الجهل بإظهار الحكمة الزائفة.
اعتبر بيكون أنّ كل شر الإنسان هو نتيجة لهذه الأخطاء، وبالتالي فإنّ الإصلاح الذي قصده بيكون يجب أن يبدأ بالإصلاح في المؤسسات التعليمية والعلوم، على سبيل المثال حدد بيكون مجموعة واحدة من العقبات التي تحول دون الحكمة في ممارسات معلمي الجامعات، ولقد أهدر المعلمون الوقت والمال على أشياء وموضوعات عديمة الفائدة لأنّهم بدلاً من التواضع الفكري انغمسوا في الامتثال والغرور.
وهكذا ألقت الأخطاء العلمية بظلالها الطويلة وكان إصلاح التعلم هو السبيل الوحيد لمعالجة المشاكل الأكاديمية والاجتماعية والسياسية للمجتمع، كما كانت موجودة داخل المجتمع المسيحي أو حتى خارجها، وفيما يتعلق بالتعامل مع غير المسيحيين مثل المسلمين واليهود.
إصلاح التعليم:
كان برنامج الإصلاح الذي اقترحه بيكون على البابا كليمنت الرابع شاملاً من حيث أنّه شمل اللاهوت بالإضافة إلى معظم التخصصات الفلسفية، وكشف بيكون عن حكمه الانتقاص من بعض الممارسات اللاهوتية عندما أورد في كتابه العمل الأصغر الخطايا السبع للدراسة الرئيسية التي هي علم اللاهوت.
وقام بتضمين الممارسة الحديثة لعلماء اللاهوت الذين يقدمون أسئلة في اللاهوت تنتمي بشكل صحيح إلى مجال الفلسفة، مثل أسئلة حول الأجرام السماوية والمادة والوجود وكيف تدرك الروح من خلال الصور أو التشابه وكيف تتحرك النفوس والملائكة محليًا بالإضافة إلى أسئلة المحتوى، ووجد بيكون أيضًا خطأً في الأساليب التي يستخدمها اللاهوتيون المعاصرون.
على سبيل المثال اشتكى بيكون من أنّ الأسئلة المتعلقة بالأسرار المقدسة أو الثالوث قد تمت معالجتها باستخدام الأساليب الفلسفية التي تتضمن المصطلحات الفلسفية والحجج والتمييزات المفاهيمية بدلاً من استخدام التفسير التقليدي المناسب للكتب المقدسة، ومن ناحية أخرى عانى التفسير بسبب:
- التركيز المفرط على كتب الجمل الأربعة لبيتر لومبارد.
- حالة القصور في باريس فولغيت.
- الإهمال والجهل لتلك العلوم الأكثر فائدة من أجل فهم حرفي دقيق للنص، والذي من شأنه أن يعزز التفسير وفقًا للحواس الروحية.
اقترح بيكون تدابير إصلاح واسعة النطاق لعلاج هذه المشاكل، ونصح بتوفير ترجمات جديدة للأعمال الفلسفية والكتب المقدسة التي أعدها مترجمون خبراء ليس فقط فيما يتعلق بإتقان اللغات المعنية ولكن أيضًا في المواد الفلسفية واللاهوتية، ودعا بيكون إلى تعديل شامل للمناهج الدراسية، وأراد تطبيق التخصصات التي كانت ذات قيمة حقيقية لتقدم التعلم والتي لم يتم دراستها بشكل صحيح في ذلك الوقت مثل المنظور (البصريات) والعلوم التجريبية والكيمياء.
كما أراد أيضًا إصلاح التخصصات التي على الرغم من تدريسها ودراستها فقد تمت دراستها بتركيز خاطئ، وهنا أشار بيكون إلى المنطق لاستخدام مصطلح التقدم فيما يتعلق لبيكون، وبالنسبة إلى بيكون لم تكن دراسة المنطق غاية في حد ذاته ولا أساسًا للعلوم الأخرى.
على العكس من ذلك رأى بيكون أنّ المنطق له قيمة مفيدة في علم اللاهوت والفلسفة فقط، بقدر ما يعزز الفهم من خلال التحليلات السيميائية والدلالية، ويصبح غير ضروري عند ممارسته كتحقيق في قواعد الجدل، وتم الحكم على هذا الأمر لأنّه وفقًا لبيكون معرفة مثل هذه القواعد فطرية، وهو ما يفسر سبب عدم تزويد المنطق للعلماء بمبادئ أو قواعد منهجية خاصة.
لمقاومة تركيز معاصريه على المنطق اقترح بيكون التركيز بدلاً من ذلك على الرياضيات، وكان يعتقد أنّه لا يمكن فهم الأمور الفلسفية ولا اللاهوتية بشكل صحيح دون استخدام الرياضيات، وتضمن برنامج بيكون الإصلاحي إدخال خمسة علوم رئيسية يُعتقد أنّها أهملت أو أسيء فهمها من قبل معاصريه.
بصرف النظر عن الرياضيات كانت هذه هي علم اللغات والمنظور والفلسفة الأخلاقية والعلوم التجريبية والكيمياء، ووفقًا لبيكون كانت هذه العلوم أكثر إفادة لتقدم العقل والجسد والمجتمع من بعض العلوم التي يفضلها معاصروه، مثل المنطق والأجزاء الأقل أهمية في الفلسفة الطبيعية وجزء من الميتافيزيقيا.
إسعاد الإنسان والعلوم:
كانت أبحاث بيكون اللاحقة في المنطق واللغات والفلسفة الأخلاقية والعلوم الطبيعية تغذيها قناعته بأنّ مجالات العمل العلمي والحياة اليومية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا، ويعتقد بيكون أنّ حالة التعلم تؤثر على نوعية حياة الأفراد بعدة طرق، وبعد كل شيء يمكن أن تؤدي الأفكار أو النظريات الخاطئة إلى عواقب اجتماعية ضارة.
المعرفة والتعلم ليسا شأنًا خاصًا ولكن لهما بعد اجتماعي وسياسي، وهكذا اقتنع بأنّ العلوم والعلمانية والإلهية يجب أن تخدم المجتمع البشري ككل في الوصول إلى السعادة والخلاص، وحدد بعد ذلك المرتبة الخاصة بكل علم من خلال درجة فائدته أي مقدار مساهمة كل منهم في سعادة الإنسان، وهكذا أصبحت العلوم النظرية خاضعة للهدف العملي للسعادة البشرية.
وفقًا لبيكون لأنّ السعادة البشرية تتمثل في الخلاص كما يفهمه المسيحيون، فإنّ أعلى علم هو العقيدة أو اللاهوت المقدس، ومع ذلك على الرغم من تفوقه الرسمي لا يزال علم اللاهوت معتمدًا على الفلسفة من حيث أنّ اللاهوت غير قادر على تحقيق هدفه بدون الفلسفة، أي القواعد والرياضيات والعلوم التجريبية والفلسفة الأخلاقية.
فيما يتعلق باللاهوت اعتبر بيكون أنّ الفلسفة الأخلاقية هي ثاني أعلى تخصص لأنّها تهدف إلى الخلاص ضمن السياق العلماني للعقل الطبيعي بدلاً من الوحي، بدوره رأى بيكون أنّ العلوم النظرية مثل الرياضيات تخضع للفلسفة الأخلاقية، ويتمثل الهدف من الرياضيات في شرح ووصف بنية العالم الطبيعي، وتوفير نوع من المعرفة التي تساهم في الغايات العملية بشكل غير مباشر فقط، وبينما على النقيض من ذلك فإنّ المعرفة التي توفرها الفلسفة الأخلاقية لها قيمة عملية فورية.
وفقًا لبيكون فإنّ البحث العلمي له توجه أخلاقي شامل، مع التركيز على الحياة الآخرة وأيضًا التركيز على الشؤون الدنيوية العملية، والهدف الموحد لجميع الدراسات العلمية لبيكون عملي ولهذا السبب يكون للعلوم العملية الأولوية على النظرية، ويتم تحديد القيمة العملية للعلم من خلال الدرجة التي يساهم بها كل علم في تحسين حياة الإنسان.
يمكن أن تكون التحسينات ثانوية من خلال الابتكار التقني أو الأولية من خلال توجيه الحياة الأخلاقية والروحية للبشر، وحث الناس على ممارسة فاضلة وملتزمة بالقانون والتي ستكافأ في النهاية بالسعادة الأبدية وهي الخلاص بالاتحاد مع الله.