كان الفيلسوف اليوناني كارنيديس رئيسًا للأكاديمية الأفلاطونية في القرن الثاني قبل الميلاد، وبصفته متشككًا أكاديميًا شرسًا كان ناقدًا قويًا للمدارس الأخرى، وخاصة الرواقيين الذين هاجموا بشدة شكوكه الأكاديمية، وهاجم كارنيديس أيضًا الأبيقوريين متحديًا قيمة (انحراف) الذرات الذي اقترحه الفيلسوف أبيقور باعتباره ضروريًا لكسر (القدر) أو الضرورة الضمنية في حتمية الفيلسوف ديموقريطوس الذري، وبعد سلفه للفيلسوف أركسيلاوس خفف كارنيديس من شكوكه، حيث كان يعرف أنّ ادعاءه بأنّ المعرفة مستحيلة هو في حد ذاته ادعاء بالمعرفة.
المعيار العلمي:
وفقًا للفيلسوف سكستوس إمبيريكوس (Sextus Empiricus) وبعد الجدل ضد جميع النظريات المعرفية المتاحة، كان الفيلسوف كارناديس (Carneades) نفسه بحاجة إلى تطوير معيار لسلوك الحياة وتحقيق السعادة، فلا يخبرنا سكستوس لماذا كان من الضروري أنّ يقوم كارناديس بذلك، ولكن ربما كان هذا لنفس السبب الذي قدم أركسيلاوس معياره العملي، أي استجابة للاعتراض بأنّه إذا لم تكن هناك أسس معرفية يمكن على أساسها تفضيل واحد، والانطباع فوق الآخر إذن على الرغم من كل المظاهر فلا يمكننا التحكم بعقلانية في اختياراتنا، وهكذا شرح كارنيديس معياره العملي إلى (pithanon).
أولاً لاحظ أنّ كل انطباع بالمعنى موجود في علاقتين متميزتين وهما:
1- واحدة مرتبطة بالشيء الذي يأتي منه (المؤثر).
2- العلاقة الأخرى مرتبطة بالمدرك.
وهنا تحدد العلاقة الأولى ما نفكر فيه عادة على أنّه حقيقة، بمعنى هل الانطباع يتوافق مع موضوعه أم لا؟ بينما العلاقة الثانية تحدد المعقولية، أي هل الانطباع مقنع للمُدرك أم لا؟ وبدلاً من الاعتماد على العلاقة الأولى تبنى كارنيديس الانطباع المقنع أو ما يطلق عليه بالبصمة المقنعة (pithanê phantasia) كمعيار للحقيقة، على الرغم من أنّه ستكون هناك مناسبات يفشل فيها في تمثيل موضوعها بدقة.
ومع ذلك فقد اعتقد على ما يبدو أنّ هذه المناسبات نادرة وبالتالي فهي لا تقدم سببًا جيدًا لعدم الثقة في الانطباعات المقنعة، ولأنّ مثل هذه الانطباعات يمكن الاعتماد عليها في الغالب وفي الممارسة الفعلية ويتم تنظيم الحياة من خلال ما يحمل في الغالب.
يذكر سكستوس أيضًا التحسينات التي أدخلها كارناديس على معياره، فإذا كنا نفكر فيما إذا كان ينبغي علينا قبول بعض الانطباعات على أنّها صحيحة، فمن المفترض أننا وجدناها بالفعل مقنعة، ولكن علينا أيضًا أن نفكر في مدى تماسكها مع الانطباعات الأخرى ذات الصلة ثم فحصها بدقة كما لو كنا نفحص الشاهد، حيث إنّ مقدار الفحص الذي يتطلبه الانطباع المقنع هو دالة لأهميته بالنسبة لنا، وفي الأمور غير المهمة نستفيد من مجرد الانطباع المقنع، ولكن في الأمور ذات الأهمية خاصة تلك المتعلقة بالسعادة يجب أن نعتمد فقط على الانطباعات المقنعة التي تم استكشافها بدقة.
يترجم شيشرون المعيار العلمي لكارنيديس (pithanon) بالمصطلحين اللاتينيين (probabile) و (veri simile) أي (المحتمل أنّ) و (محقق) على التوالي، ويدّعي أنّ هذا المعيار يجب استخدامه في كل من الحياة اليومية وفي الممارسة الديالكتيكية الأكاديمية للدفاع عن وجهات النظر الفلسفية وضدها، كما أنّه السمة الجديدة لهذا المعيار هي أنّه لا يضمن صحة ما يتوافق معه، ولكن إذا كانت ستلعب الدور الديالكتيكي الذي حدده شيشرون صراحة واقترحه تقرير سيكستوس فلا بد أن يكون لها صلة ما بالحقيقة.
يتضح هذا بشكل خاص في حالة الانطباعات الحسية أي فائدة الفحص الشامل للانطباعات الحسية هي أننا قد نستبعد الانطباعات الخادعة ونقبل الانطباعات الدقيقة، وقد نقوم بعمل حالة مماثلة كما يفعل شيشرون للفحص الديالكتيكي للآراء الفلسفية، وتتمثل إحدى الصعوبات الرئيسية في تفسير المعيار العلمي لكارنيديس (pithanon) بهذه الطريقة في أنّه يتطلب بعض التفسير لكيفية قدرتنا على تحديد ما يشبه الحقيقة (veri simile) دون أن نكون قادرين على تحديد الحقيقة نفسها.
متشكك أم عقيم؟
حتى إذا كان التفسير المعصوم من الخطأ لمعيار كارنيديس صحيحًا ولكن تظل هناك مشكلة أخرى فيما إذا كان قد أيّد بالفعل معياره بنفسه، أو ما إذا كان قد طوره فقط بطريقة جدلية كوجهة نظر محتملة، وفي الواقع حتى الفيلسوف كليتوماكس (Clitomachus) قد طالب كارنيديس لم يكن قادرًا على تحديد ما أيده كارنيديس إن وجد.
وينشأ عدد من الصعوبات إذا وافق كارنيديس على معياره، وهذه الصعوبات تتضمن ما يلي:
1- أولاً جادل كارنيديس بأنّه لا يوجد على الإطلاق أي معيار للحقيقة ومن المفترض أن يشمل ذلك (pithanon).
2- ثانيًا يدّعي كليتوماكس أنّ كارنيديس قد تحمل عملاً شاقًا تقريبًا عندما طرح موافقته خارج أذهاننا، مثل الوحش الوحشي المتوحش وهذا مجرد رأي وعدم تفكير.
وهكذا يبدو أنّه من غير المتسق بالنسبة له أن يقبل شكلاً معتدلاً وغير معصوم من الخطأ من الموافقة إذا أدى إلى تبني الآراء.
قد نتعامل ببساطة مع معيار كارنيديس من خلال ملاحظة أنّه في بعض الأحيان جادل بحماسة شديدة لدعم بعض الآراء التي يعتقد الناس بشكل معقول، ولكن بشكل غير صحيح أنّه قبلها بنفسه، وهكذا يمكن أن نقول إنّ كارنياديس تقدم بوجهات نظر جدلية فقط لكنها ظلت غير ملتزمة بأي منها، وسيكون معياره في هذه الحالة هو النتيجة المخيبة للآمال للالتزامات المعرفية الرواقية، والمخيبة للآمال كما في حالة القراءة الديالكتيكية لمعيار أركسيلاوس (Arcesilaus’eulogon)، لأنّ الرواقيين يعتقدون أنّ هذه الالتزامات نفسها أدت إلى معيار أكثر قوة.
من ناحية أخرى يؤيد شيشرون تفسيرًا معصومًا للخطأ للـ(pithanon) والذي يبدو أنّه يعتقد أنّه قد أيّده أيضًا كارناديس نفسه، وقد تم تطوير هذا التفسير بواسطة الفيلسوف ميترودورس من لامبساكوس (Metrodorus) وهو أحد طلاب كارنيديس ومعلم شيشرون وفيلو.
كما يوجد أيضًا دليل على أنّ كارنيديس قد ميّز تمييزًا مهمًا بين الموافقة والقبول الذي ربما يكون قد ناشد به في هذا السياق، كما إنّه يحد من الموافقة على الحدث العقلي المتمثل في اتخاذ اقتراح ما ليكون صحيحًا ويتبنى مصطلح (الموافقة) للحدث العقلي الأكثر تواضعًا المتمثل في اتخاذ عرض ما ليكون مقنعًا ولكن دون الالتزام بحقيقته، وإذا كان هذا التمييز قابلاً للتطبيق فسيسمح لكارنيديس بالموافقة على معياره المعرفي دون إلزام نفسه بأي مستوى نظري أعمق.
بعبارة أخرى يمكن أن يستأنف كارنيديس معياره لاعتماده ذاته لهذا المعيار بحيث إنّه (pithanon) ولكن غير متأكد من أنّ (pithanon) هو المعيار لتحديد ما يجب أن نوافق عليه، كما يدّعي شيشرون أنّ كارنيديس قام بهذا النوع من الحركة في حالة رفضه لاحتمال حدوث رواقي (katalepsis): من غير المحتمل التي تساوي (pithanon)، ولكن ليس من المؤكد أنّ (katalepsis) غير ممكن