مناطق الوجه البحري والقبلي للحضارة المصرية القديمة:
بقيت مناطق الوجه البحري أقل حظاً من مناطق الوجه القبلي فيما بقي من آثارها الحضارية القديمة، يتساوى في ذلك نصيبها من آثار التاريخ ونصيبها من آثار العصور التاريخية نفسها. حيث تعود أسباب هذه القلة عدة ظروف طبيعية وبيئية التي أحاطت بالدلتا القديمة منها انخفاض وكثرة فروعها المالية وشدة طغيان الفيضانات عليها وترسب الطمى فيها وانتشار المنافع في مناطقها الشمالية إضافة إلى سرعة تحلل الآثار فيها وارتفاع نسبة الرطوبة في تربتها.
ويبدو أن ظروف الدلتا القديمة كانت ذات جانبين فمن المحتمل أن كثرة تعرض أراضيها لأخطار الفيضان كانت سبباً في قيام أهلها على مداومة الكفاح والرضا بأسباب التعاون والتقارب لتلافي هذه الأخطار عن أراضي الزراعة وأراضي المساكن وكذلك هذا الدافع كان متوفراً في الصعيد أيضاً.
لكنه كان ألزم في الدلتا وأكثر ضرورة ومن المحتمل كذلك أن طمع بدو الصحراوين الشرقية والغربية في خصوبة أرضها كان هدفاً لأهلها على التعاون لدفع شرهم، ودافعاً لهم على التجمع في وحدات سياسية مبكرة متكاتفة ويبدو أن قلة المواد الأولية في الدلتا كانت دافعا ثالثاً شجع أهلها على التعاون لتيسير الحصول عليها من مواطنيها مثل النحاس من شبه جزيرة سيناء والأحجار الملونة من جبال البحر الأحمر.
حيث ثمة عدة عوامل ذكرها بعض الباحثين استشهد بها على حذر، منها أن اتساع مساحة أراضي الدلتا أديا إلى رحابة مدى التكبير عند أهلها، على عكس أراضي الصعيد الزراعية الضيقة التي تحدها التلال والجبال وأن سهولة اتصال الدلتا ببقية حوض البحر المتوسط كانت من دوافع تقدمها على عكس الصعيد قليل الاتصالات، ومن جهة أخرى حضارات الدلتا والصعيد بقيت أكثر رقياً من حضارات البحر المتوسط خلال فجر التاريخ.
هذا إلى جانب مناطق العمران التي تكونت على أطراف الدلتا في أوائل العصر الحجري الحديث، في حلوان ومرمدة بني سلامة، حيث أدى التنقيب الأثري إلى الكشف عن مناطق عمران أخرى عند رأس الدلتا القديمة في عين شمس والمعادي وطرة وكانت ثلاثتها نقطا متصلة في سلسلة من مناطق العمران التي لا تزال أغلب آثارها دفينة في الأرض حتى الآن.
حفائر المعادي:
اكتسبت حفائر المعادي بعض الأهمية بسبب وجودها عند رأس الدلتا قليلة الآثار، حيث قام البحث فيها في منطقة المساكن حيث تم الكشف فيها عن قرية تناثرت مساكنها في لا يقل عن أربعين فداناً. ولم تكن مساكن المعادي فريدة في نوعها بطبيعتها، فقد كشفت قبلها و بعدها مناطق سكنية ترجع إلى عصر ما قبل الأسرات وعصر النيوليتي، لكن منطقة العمل الأثري في مساكنها كانت اكثر اتساعاً عمن غيرها.
وتم وصف خصائص الموقع بالنسبة إلى قرية المعادي وصفا مميزاً وإن كان مبالغ فيه بعض الشيء فيقال أنها قامت عند قمة الدلتا وعلى ربوة ضيقة يمتد طرفها الغربي حتى نهاية السهل الفيضي، وانفتح الطريق أمامها من ناحية الشرق حتى ساحل خليج السويس وشبه جزيرة سيناء وأطلت من ناحية الجنوب على وادي دجلة ومن الشمال على وادي التيه، حيث حمتها من الشرق هضبة مرتفعة من الحجر الجيري.
تشابهت آثار المستويات الطبقية في قرية المعادي حيث شهدت وجهاً حضارياً واحداً يمكن تعيين عهده في فترة أواسط ما قبل الأسرات، بدليل وجود الأدوات النحاسية فيها، بسبب تأثرها بالخصائص المبكرة لحضارة نقادة الثانية. حيث عثر في المعادي على آثار ثلاثة أنواع من المساكن المتواضعة وهي آثار طفيفة لمساكن خفيفة ذات محيط شبه بيضوي يفتح من ناحية الجنوب وتعتبر شيئاً وسطا بين الدروة والكوخ، ودل عليها وجود فجوات القوائم الغفل التي كانت تحدد أركانها إضافة إلى وجود بقايا من القوائم نفسها وكانت تأخذ من أشجار الأثل أو من فروعها السميكة ويعود أسلوب هذا النوع من المساكن إلى عهد هرمدة والعمری،
حيث استمر عند المزارعين الفقراء بعد عهد المعادي بعصور طويلة وأيضاً نوع آخر من المساكن يقع جزء كبير من كل مسکن منها غائراً تحت مستوى سطح الأرض الرملية، ويصل إليه أهله بدرج بسيط يتكون من أحجار صغيرة متناثرة على غير نظام ثابت. حيث وجد بأرضيات بعض هذه المساكن فجوات صغيرة متجاورة ألفت في مجموعها أشكال بيضاوية أحياناً مستديرة أحياناً ونصف مستديرة حيناً آخر حيث تتوسطها عادة فجوة أكبر منها.