يعد عمل الفيلسوف مارتن بوبر ركيزة أساسية للأنثروبولوجيا الفلسفية النوعية ولا يزال يتم الاستشهاد به في مجالات مثل علم النفس الفلسفي والأنثروبولوجيا الطبية والنظرية التربوية، فقد جعلت كتابات بوبر عن النهضة القومية اليهودية والحسيدية والفلسفة السياسية منه شخصية بارزة في القرن العشرين في الفكر اليهودي وفلسفة الدين، كما إنّ كتابات بوبر المكثفة حول الأبعاد السياسية للتأريخ الكتابي والأدب النبوي لم تسهم فقط في تاريخ الدين ولكن أيضًا في المناقشات المعاصرة حول اللاهوت السياسي ذات النزعة اللاسلطوية.
التأثيرات الفلسفية:
من بين التأثيرات الفلسفية المبكرة لبوبر كانت مقدمات نقدية (Prolegomena) للفيلسوف إيمانويل كانط، والتي قرأها في سن الرابعة عشرة وزرادشت (Zarathustra) للفيسلوف فريدريك نيتشه، فقد وجد بوبر الذي كان مسكونًا باللامتناهي الظاهري للمكان والزمان العزاء في فهم كانط أنّ المكان والزمان هما مجرد أشكال من الإدراك الذي يبني مجموعة الانطباعات الحسية.
في الوقت نفسه يسمح كانط بالتفكير في الوجود على أنّه يتجاوز الأشكال النقية للعقل البشري، كما يبدو أنّ قراءة بوبر الدينية المعتدلة لكانط والتي تبدو تقليدية وذاتية الحركة لم تتأثر بالمناقشات بين المدارس المختلفة للكانطية الجديدة التي تطورت منذ ستينيات القرن التاسع عشر وأصبحت تهيمن على الكثير من التدريس الأكاديمي للفلسفة في جميع أنحاء ألمانيا حتى الحرب العالمية الأولى.
من نيتشه وشوبنهاور تعلم بوبر أهمية الإرادة والقدرة على إبراز الذات بشكل بطولي في عالم مرن وسلس، والقيام بذلك وفقًا للمعايير والمقاييس الخاصة بالفرد، وعلى الرغم من أنّ فلسفة بوبر في الحوار هي خطوة حاسمة بعيدًا عن حيوية نيتشه إلّا أنّ التركيز على التجربة الحية والكمال البشري المتجسد بالإضافة إلى النبرة النبوية والأسلوب المأثور الذي شحذه بوبر منذ البداية استمر في كتاباته اللاحقة.
بين عامي 1896 و 1899 درس تاريخ الفن والأدب الألماني والفلسفة وعلم النفس في فيينا ولايبزيغ في عامين 1897 و 1898 وبرلين في عامين 1898 و 1899 وزيورخ في عام 1899، ففي فيينا استوعب الشعر النمطي لستيفان جورج مما أثر عليه بشكل كبير على الرغم من أنّه لم يصبح تلميذاً لجورج.
أما في لايبزيغ وبرلين طوّر اهتمامًا بعلم النفس العرقي (Völkerpsychologie) لويلهلم فونت، والفلسفة الاجتماعية لجورج سيميل وعلم نفس كارل ستومبف ونهج فلسفة الحياة (lebensphilosophische) للإنسانيات في فيلهلم ديلثي، وفي لايبزيغ حضر اجتماعات جمعية الثقافة الأخلاقية (Gesellschaft für ethische Kultur) ثم هيمن عليها فكر لاسال وتونيس.
احتفظ بوبر منذ قراءته المبكرة للأدب الفلسفي ببعض من أبسط المعتقدات الموجودة في كتاباته اللاحقة، ففي كانط وجد إجابتين لاهتمامه بطبيعة الوقت، وإذا كان الزمان والمكان شكلين نقيين للإدراك فإنهما يتعلقان بالأشياء فقط كما تظهر لنا (كظواهر) وليس بالأشياء في ذاتها (noumena)، وإذا كانت تجربتنا مع الآخرين وخاصة الأشخاص تتعلق بأشياء من تجربتنا فإننا بالضرورة نختزلها في نطاق معرفتنا الظاهراتية، وبعبارة أخرى إلى ما أطلق عليه لاحقًا علاقة أنا وهو (I-It).
ومع ذلك أشار كانط أيضًا إلى طرق للتحدث بشكل هادف عن (noumenal) حتى وإن لم يكن من منظور العقل النظري، والعقل العملي -كما يتم التعبير عنه في قواعد العمل أو الضرورات القاطعة أو مبادئ الواجب التي نختارها لمصلحتهم وبغض النظر عن النتيجة- يلزمنا بالنظر إلى الأشخاص على أنّهم غايات في حد ذاتها بدلاً من اعتبارهم وسيلة لتحقيق غاية، وهذا يشير إلى شيء مثل الالتزام المطلق.
يقترح الحكم الغائي (الجمالي) كما تم تطويره في نقد كانط الثالث إمكانية وجود أساس عقلاني للتمثيل، وإذا أخذناها معًا فإنّ مفاهيم كانط للأخلاق والجماليات تتفق مع فكرة بوبر بأنّ الظاهرة هي دائمًا بوابة نومينون تمامًا كما لا يمكن مواجهة النومنال إلّا في الظواهر الملموسة وعن طريقها، وهكذا تمكن بوبر من دمج المفاهيم الميتافيزيقية والأخلاقية الكانطية في علاقة أكثر إلحاحًا بالأشياء كما تظهر لنا وكما نمثلها لأنفسنا.
نجح بوبر في ترجمة هذا الجدلي النظري عن الآنية والبعد واللقاء الهائل والانعكاسية إلى أسلوب طوره في كتاباته ولكن أيضًا في أسلوب تفاعلاته الشخصية، فقد سعى بوبر ليس فقط لوصف التوتر بين أسبقية (Dionysian) للحياة في خصوصيتها وفوريتها وفردانيتها وعالم (Apollonian) من الشكل والقياس والتجريد كقوى مترابطة، فكلاهما مكون للتجربة البشرية من حيث أنّهما يلونان تفاعلاتنا مع الآخر في الطبيعة مع البشر الآخرين ومع الإله، وهكذا طوّر بوبر صوته المميز في جوقة الكتاب والمفكرين والفنانين الناشئة في عصره الذين احتشدوا ضد الاغتراب الملحوظ على نطاق واسع المرتبط بالحياة الحديثة.
التكريم والإرث:
تم تجاهل بوبر إلى حد كبير من قبل الفلاسفة الأكاديميين وقد تم الاعتراف به على نطاق واسع ومراجعته عبر المجال الأكبر للرسائل الألمانية قبل الحرب العالمية الأولى، وارتقى إلى مكانة بارزة متجددة في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية حيث ترجمته للكتاب المقدس، كما ظلت ترجماته للكتاب المقدس ومجموعات القصص الحسيدية والكتابات حول فلسفة الحوار مطبوعة منذ ذلك الحين.
من بين الجوائز التي حصل عليها بوبر بعد عام 1945 جائزة جوته لمدينة هامبورغ في عام 1951، وجائزة السلام لتجارة الكتب الألمانية (Friedenspreis des Deutschen Buchhandels)، وجائزة إيراسموس (Erasmus) في عام 1963.
طلاب والعلماء المهتمين بأعمال بوبر:
كان الطلاب المهمون الذين اعتبروا عملهم استمرارًا لأعمال بوبر هم:
1- ناحوم غلاتزر (Nahum Glatzer): هو طالب الدكتوراه الوحيد لبوبير خلال سنواته في الجامعة في فرانكفورت للأعوام ما بين 1924-1933، وفيما بعد كان مدرسًا مؤثرًا للدراسات اليهودية في جامعة برانديز).
2- أكيبا إرنست سيمون (Akiba Ernst Simon): وهو مؤرخ و منظّر التعليم في إسرائيل الذي التقى لأول مرة بوبر في بيت تعليمي يهودي مجاني في فرانكفورت، والذي عاد من فلسطين للعمل مع بوبر في مركز تعليم الكبار اليهود، علماء إسرائيليين مهمين ومنهم شموئيل أيزنشتات وأميتاي إتزيوني وجوشانان بلوش الذي عرف بوبر في سنواته الأخيرة عندما درّس ندوات حول الفلسفة الاجتماعية والتعليم في الجامعة العبرية في القدس.
أما بالنسبة للولايات المتحدة فقد قدم موريس فريدمان مترجم وكاتب سيرة بوبر الأمريكي وهو مؤلف غزير الإنتاج في حد ذاته، قدم بوبر بمفرده تقريبًا إلى علماء الدين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب والجمهور الأكبر من القراء.
بالإضافة إلى فريدمان ساعد والتر كوفمان مؤلف إحدى أولى دراسات اللغة الإنجليزية لنيتشه بالإضافة إلى كتب عن الدين والوجودية في نشر بوبر في الولايات المتحدة على الرغم من النقد الذي وجه لكتاب بوبر أنا وأنت، وقد كان كوفمان هو أول من أدرج بوبر في قانون الوجودية الدينية في الخمسينيات والستينيات، وفي الفلسفة اليهودية طغى اسم بوبر منذ ذلك الحين على اسم فرانز روزنزويج وإيمانويل ليفيناس.