اقرأ في هذا المقال
ولد جون ديوي بعد جيل من الفيلسوفان الأمريكيان بيرس وجيمس وعاش عقودًا بعدهما معًا، وأنتج مجموعة من الأعمال التي وصلت إلى جمهور أكبر بكثير من أي من أسلافه.
المنظور العام لفلسفة جون ديوي:
مثل بيرس وجيمس انخرط ديوي في الكتابة الفلسفية الأكاديمية ونشر العديد من المقالات والكتب حول الميتافيزيقيا ونظرية المعرفة ونظرية القيمة، وعلى عكس بيرس وجيمس فقد كتب أيضًا قدرًا هائلاً عن الفلسفة الاجتماعية والسياسية وغالبًا ما شارك في حوار خارج الأكاديمية.
كما أصبح معروفًا على المستوى الوطني كمصلح تعليمي، وغالبًا ما يشارك في المنتديات العامة، وينتج أعمالًا شديدة التأثير مثل الديمقراطية والتعليم، كما وصلت كتاباته الاجتماعية والسياسية مثل الجمهور ومشاكله إلى جمهور يتجاوز بكثير الفلاسفة الأكاديميين، وفي إطار الفلسفة الصحيحة ربما اشتهر ديوي بعمله في الاستفسار والمنطق، مشيرًا إلى أنّ جميع الاستقصاءات يتم إجراؤها من قبل الوكلاء وليس فقط من خلال معالجات المعلومات السلبية، وأكد على الطبيعة التجريبية والفعالة للسلوك البشري.
مع الأخذ في الاعتبار أنّ الاستفسار هو: التحول المتحكم فيه لموقف غير محدد من أجل تحويل عناصر الموقف الأصلي إلى كل موحد، وجادل ديوي بأنّ المنطق والقواعد الرسمية للاستدلال والتضمين هي في النهاية تعميمات للاستنتاجات المضمونة أو المبررة، والمنطق هو نوع من التحقيق وهذا الأخير لا يهتم به أو يخلو من التقييم، ويشير هذا التركيز على التفاعل الهادف بين العوامل والبيئات إلى نقد ديوي المعروف لما أسماه (البحث عن اليقين).
فلسفة ديوي في النشاط البشري:
كان الكثير من النشاط البشري (مع الفلاسفة الجناة الأساسيين) هو البحث عن المطلقات، سواء في مجال الأنطولوجيا أو نظرية المعرفة أو الأخلاق وهذا بالنسبة لديوي مخطئ، والعالم مليء بالطوارئ وهو في حالة تغير مستمر، ويجب أن يكون التحقيق البشري مسألة عمل هادف استجابةً لمثل هذه الحالات الطارئة والتغييرات وفي النهاية توقعًا لها.
والذكاء هو تجريبي وتقييمي، ونتعلم من خلال العمل من خلال التعامل مع الألغاز والمشاكل التي تطرحها البيئة المتغيرة، في حين أنّه قد لا تكون هناك معايير أبدية مطلقة للحكم الأخلاقي، على سبيل المثال إلّا أنّ هناك أيضًا معايير تتجاوز التفضيلات الذاتية، ونظرًا لوجود حقائق حول الاحتمالات والمشكلات التي نواجهها.
يؤكد ديوي باستمرار على حساب طبيعي للنشاط البشري، حيث رأى ديوي (مثل جيمس) أنّ الاستقصاء البشري هو تسلية للفرضيات والذكاء كتقييم، وشدد ديوي مفضلاً أن يطلق على مقاربه الفلسفية ذرائعية بدلاً من براغماتية على الطبيعة العرضية والهادفة للفعل البشري، وانتقلت وجهة نظر التعلم بالممارسة هذه إلى التزاماته الميتافيزيقية.
على سبيل المثال شدد كثيرًا على الموقف القائل بأنّ العامل لا يمكن فهمه تمامًا إلّا على أنّه قطب واحد في التفاعل بين الشخص والبيئة وليس مجرد موضوع يصطدم بعالم من الأشياء، وانتقل هذا المبدأ إلى مجالات عملية أكثر فورًا مثل نظريته التعليمية، وهنا دعا بقوة إلى التعليم الرسمي كوسيلة لتعزيز استقلالية الأشخاص، حيث يُفهم هذا الاستقلالية على أنّها قدرة الأشخاص على تأطير الأغراض والخطط وأهداف الحياة جنبًا إلى جنب مع المهارات والقدرات لتنفيذ تلك الأغراض والخطط والأهداف حيز التنفيذ.
مبادئ التعليم لدى ديوي:
إنّ التعليم المرتبط بالتجارب الهادفة هو الذي يعترف بمبدأين ويستندان إليهما:
1- مبدأ الاستمرارية: فنحن عملاء مؤقتون وخبرات اليوم هي جزء من سلسلة متصلة مع تجارب الأمس والغد.
2- مبدأ التفاعل: نحن هي كائنات اجتماعية وخبرات المرء متداخلة بطبيعتها وبشكل لا ينفصم مع تجارب الآخرين.
في كثير من الأحيان ينتقد ويرفض الانقسامات التي رأى أنّها لا أساس لها ولا يمكن تحملها، وجادل ديوي في كثير من الأحيان ضد ثنائية الحقيقة أو القيمة، وما هو جيد (أو سيء) يتعلق بالسياقات والأهداف، ولكن في نفس الوقت يتعلق بما يساعد الكائن الحي على التأقلم والازدهار في العالم، وبالاعتماد على التراث الدارويني والكتابة كمؤيد مبكر لما يُنظر إليه الآن على أنّه أخلاقيات تطورية وطبيعية، فإنّ نمو ديوي هو النهاية الأخلاقية الوحيدة.
يعد التكيف مع البيئات المختلفة والمتغيرة بما في ذلك البيئات الاجتماعية والأخلاقية، وهي علامات على العمل المناسب، وفي التفاعل مع بيئات الفرد يجب أن يقرر الوكيل من بين أهداف وخيارات العمل بناءً على النتائج المتوقعة، وإنّ تقييم المواقف والتداول بشأن النتائج المحتملة هو ما يشير إليه ديوي باسم (التقييم)، وتوضح عملية التقييم هذه بالنسبة لديوي بوضوح المفهوم الخاطئ والعديم الفائدة للانقسام بين الحقيقة والقيمة.
أخيرًا جنبًا إلى جنب مع الجدل حول التقييم على مستوى الكائن أو الشخص الفردي كتب ديوي بشكل كبير عن التقييم على مستوى المجموعة أو المجتمع، وفي كثير من الأحيان يتحدث عن الديمقراطية كأسلوب حياة، وادّعى أنّ تحقيق الذات الكامل يتطلب المجتمع وأكد هذا الإدراك الذاتي في سياق مشاركة الأفراد في التجمعات الاجتماعية.
أنواع الحرية لدى ديوي:
الترتيبات الاجتماعية في الواقع هي وسائل لخلق الأفراد، وبالنسبة لديوي ليست فرضيات قمعية على الأقل ليس بطبيعتها، ويمكن أن تكون الترتيبات الاجتماعية قمعية ولكن ليس فقط من خلال كونها اجتماعية، والترتيبات الاجتماعية بعيدًا عن كونها قيودًا أجنبية على حريتنا، فهي طبيعية ويمكن أن تعزز حريتنا الفردية.
يوضح ديوي هذا الادعاء من خلال التمييز بين نوعين من الحرية:
1- حرية الحركة.
2- حرية الذكاء.
وحرية الحركة هي ما يشير إليه بعض الفلاسفة بعبارة: “الحرية من”، وأن تكون حراً بهذا المعنى يعني أنّ المرء يتحرر من القيود الخارجية على تحركاته، وهذا كما يقول ديوي هو بالتأكيد إحساس مهم بالحرية، لكنه مجرد شعور هو وسيلة لتحقيق غاية أكثر أهمية، والتي يصفها بأنّها نوع أكمل من الحرية أي حرية الذكاء، أو ما يسميه بعض الفلاسفة (حرية).
إنّ عدم وجود قيود خارجية (كبيرة) على تحركات المرء لا يؤدي إلى تحقيق الذات أو يستلزمه، وكما قال في كتابه (الجمهور ومشكلاته): “لم يتحرر أي إنسان ولا عقل بمجرد تركه بمفرده”، وما يمكن للمرء أن يفعله حرًا، وما يفعله بغياب القيد هو إحساس أكثر أهمية بالحرية لديوي، وإنّه يعبّر عن هذا المعنى الكامل للحرية في مجموعة متنوعة من الطرق في جميع كتاباته، على سبيل المثال إنّها: “غريزة سليمة تحدد الحرية مع القدرة على تأطير الأغراض وتنفيذ أغراض مؤطرة على هذا النحو”.
حرية الحركة (أي التحرر من القيود) شرط ضروري ولكنه شرط ضروري لهذا الشعور الكامل بالحرية، وعلاوة على ذلك لا تنتج حرية الذكاء هذه من العيش في عزلة عن رفض القيود الاجتماعية، أو في صياغته (الضوابط الاجتماعية)، وفي الواقع الضوابط الاجتماعية طبيعية تمامًا وذاتية التوجيه كما يدعي ديوي، على سبيل المثال كما يقول شاهد الأطفال يلعبون، فمن أول الأشياء التي سيفعلونها هو وضع قواعد ومعايير للعب من أجل جعل اللعب ممكنًا، حيث تتضمن الألعاب قواعد تقيد العمل، ولكنها في نفس الوقت تجعل العمل الهادف ممكنًا.
النقطة المهمة هنا هي أنّ هذه القواعد ليست مقبولة فحسب بل يفرضها الأطفال في اللعب على أنفسهم في أغلب الأحيان، بالإضافة إلى كونها طبيعية فإنّ حرية الذكاء التي تتضمن ضوابط اجتماعية هي اجتماعية في نشأتها، وبالنسبة إلى ديوي: “الحرية هي ذلك الإطلاق الآمن والوفاء بالإمكانيات الشخصية التي لا تحدث إلّا في حالة ارتباط ثري ومتنوع مع الآخرين، والقدرة على أن تكون ذاتيًا فرديًا تقدم مساهمة مميزة وتتمتع بطريقتها الخاصة بثمار الجمعية”.