تطور فلسفة كورنيليوس كاستورياديس

اقرأ في هذا المقال


كان كورنيليوس كاستورياديس (Cornelius Castoriadis) شخصية فكرية مهمة في فرنسا لعقود عديدة وذلك بدءًا من أواخر الأربعينيات، وكان قد تدرب كاستورياديس في الفلسفة، وعمل أيضًا كخبير اقتصادي ممارس وعالم نفس أثناء تأليف أكثر من عشرين عملاً رئيسيًا والعديد من المقالات التي تغطي العديد من الموضوعات الفلسفية التقليدية، بما في ذلك السياسة والاقتصاد وعلم النفس والأنثروبولوجيا والأنطولوجيا.

أثر حياة كاستورياديس في اليونان والوصول إلى فرنسا:

ولد كورنيليوس كاستورياديس لعائلة يونانية عرقية تعيش في القسطنطينية (اسطنبول) في عام 1922، حيث كانت هذه السنة واحدة من أكثر الأعوام اضطرابًا في التاريخ اليوناني الحديث، وبعد الحرب العالمية الأولى كان القوميون الأتراك يطالبون عسكريًا بالأراضي الممنوحة لليونان على حساب الإمبراطورية العثمانية من قبل قوى الوفاق المنتصرة، وعندما بدت هزيمة الجيش اليوناني في الأراضي العثمانية وشيكة نقل والد كاستورياديس العائلة إلى أثينا حيث منزل والدة كاستورياديس، وكان ذلك عندما بلغ عمر كورنيليوس بضعة أشهر.

نتيجة لذلك أمضى كاستورياديس شبابه في أثينا حيث اكتشف الفلسفة في سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، وشارك في أنشطة الشباب الشيوعي أثناء وجوده في المدرسة الثانوية ثم درس الاقتصاد والعلوم السياسية والقانون بينما قاوم احتلال المحور لليونان خلال الحرب العالمية الثانية.

نأت مجموعته المعارضة التروتسكية بنفسها عن المعارضة المؤيدة للستالينية، وخلال هذا الوقت نشر كاستورياديس كتاباته الأكاديمية الأولى حول منهجية ماكس ويبر عالم الاجتماع الألماني، كما قاد ندوات حول الفلاسفة بما في ذلك الفيلسوفان إيمانويل كانط وجورج فيلهلم فريدريش هيجل، وفي عام 1945 حصل على منحة دراسية وقبلها لكتابة أطروحة فلسفية في جامعة السوربون في باريس وبذلك بدأ مرحلة جديدة تمامًا في حياته.

في باريس خطط كاستورياديس لكتابة أطروحته حول استحالة وجود نظام فلسفي عقلاني مغلق، ومع ذلك هذه الخطة أخذت المرحلة الثانية لأنشطته السياسية النقدية، كما أصبح ناشطًا في الفرع الفرنسي للحزب التروتسكي على الرغم من أنّه سرعان ما انتقد فشل المجموعة في اتخاذ موقف أقوى ضد ستالن.

بحلول عام 1947 طور كاستورياديس نقده الخاص للسوفييت الذين كما جادل لم يخلقوا سوى نوع جديد من الاستغلال في روسيا أي الاستغلال البيروقراطي، كما اكتشف الاثنان أنّه شارك وجهات نظر مماثلة مع أحد معارفه مؤخرًا كلود ليفورت وبدأ الاثنان في إبعاد نفسيهما تمامًا عن الهدف التروتسكي المتمثل في حكم الحزب.

أثر فكر كاستورياديس على مجتمعه:

بدأ كاستورياديس مهنتين رئيسيتين في عام 1948 وهما:

1- أولاً شارك هو ويفورت في تأسيس مجلة ومجموعة سياسية باسم الاشتراكية أو البربرية (Socialisme ou Barbarie)، حيث ركزوا على انتقاد كل من البيروقراطية السوفيتية والرأسمالية وعلى تطوير أفكار لمنظمات أخرى محتملة في المجتمع، وعبّر البيان التأسيسي للمجموعة عن اهتمام بنقد اجتماعي غير دوغماتي لكنه لا يزال ماركسيًا.

من ناحية أخرى ستظل الأسئلة التقليدية التي أثارها ماركس حول العمال والتنظيم الاجتماعي مهمة، بينما من ناحية أخرى فإنّ أي التزام بمواقف ماركسية محددة سيظل مشروطًا، وعلى الرغم من المعارضة الداخلية وتغييرات العضوية ظلت المجموعة سليمة جزئيًا من عام 1948 إلى عام 1966 مع ذروة مشاركة من بضع عشرات من الأعضاء وحوالي 1000 نسخة تم إنتاجها لكل إصدار من مجلة المجموعة، كما ساعدت قيادة وكتابات كاستورياديس في ترسيخه كشخصية مهمة في المجال السياسي-الفكري في باريس.

2- ثانيًا في عام 1948 بدأ كاستورياديس العمل كخبير اقتصادي مع المنظمة الدولية للتعاون الاقتصادي الأوروبي (Organization for European Economic Cooperation-OEEC)، وظل هناك حتى عام 1970 حيث قام بتحليل الوضع الاقتصادي قصير ومتوسط ​​المدى للدول المتقدمة، ولم يسمح له عمله مع (OEEC) فقط بدخل وإمكانية البقاء في فرنسا حتى تأميمه في نهاية المطاف، ولكنه أتاح له أيضًا رؤى ثاقبة في اقتصادات البلدان الرأسمالية وفي عمل منظمة بيروقراطية كبرى.

بعد عمله مع (OEEC) عمل كاستورياديس خلال السبعينيات كمحلل نفسي، كما حصل أخيرًا على منصب أكاديمي في كلية الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية (École des Hautes Études en Sciences Sociales-EHESS) في باريس عام 1979، وظل مع (EHESS) حتى وفاته بعد جراحة القلب في عام 1997.

مفهوم الإدارة الذاتية في الكتابات المبكرة:

بالتفكير في مجموعة الاشتراكية أو البربرية اعتبر كاستورياديس أنّ أحد أهم مساهماته في المجلة هو مفهوم الإدارة الذاتية للعمال، بينما في كتاباته اللاحقة تطور المفهوم إلى نظرية للاستقلالية تقف بشكل مستقل عن الإطار الماركسي، وخلال سنوات المجلات كانت نظرية الإدارة الذاتية بمثابة تعديل أو بديل لنظرية ماركس عن الصراع الطبقي.

في عام 1955 بعنوان حول محتوى الاشتراكية كتب كاستورياديس تحت اسم مستعار من أجل حماية نفسه من الترحيل كأجنبي، حدد الصراع المركزي في المجتمع ليس من حيث الانقسام الكلاسيكي بين المالكين والعمال، ولكن من حيث الصراع بين المديرين والمنفذين، والجدير بالذكر أنّ هذا التمييز يتزامن مع تعريف أرسطو للسيد والعبد في السياسة ومع التحليل الاقتصادي للفيلسوف سيمون ويل منذ عام 1933.

كما قال إنّ المجتمع المعاصر منقسم بين فئة المديرين الذين يوجهون العمال، وطبقة من العمال المطيعين للمديرين، حيث يمرر العمال معلومات العالم الحقيقي إلى المديرين، ولكن يجب عليهم بعد ذلك تنفيذ الأوامر التي غالبًا ما تكون غير منطقية والتي يتم تمريرها مرة أخرى.

بالنسبة إلى كاستورياديس في كل من الدول الغربية وما يسمى بالدول الشيوعية (أي البلدان التي كان كاستورياديس قد قال إنّها تجسد فقط مظهرًا من مظاهر الشيوعية) غالبًا ما يكون المديرون غير مطلعين على المهام التابعة ولا يعرفون سوى القليل عن مجالات العمل المترابطة، ومع ذلك فهم لا يزالون يوجهون عملية الإنتاج الفورية، وقد جادل كاستورياديس بأنّ مثل هذا الجهاز الإداري يؤدي إلى عدم الكفاءة والهدر والصراع غير الضروري بين المديرين المنعزلين والعمال المستعبدين.

قال كاستورياديس إنّ هيمنة الجهاز الإداري على المجتمع لا يمكن تجاوزها إلّا عندما يتحمل العمال مسؤولية تنظيم أنفسهم، ويجب أن يتولى العمال إدارة فعالة لحالة عملهم بمعرفة كاملة بالحقائق ذات الصلة، وهذا التركيز على أهمية المعرفة يعني أنّ الأفراد يجب أن يعملوا بشكل تعاوني، كما يجب أن يشكلوا مجالس عمالية تتكون من أعضاء منتخبين بشروط.

هؤلاء الأعضاء في عكس صارم للنموذج الإداري البيروقراطي يجب أن يجتمعوا بشكل متكرر ليس من أجل اتخاذ قرارات للعمال ولكن من أجل التعبير عن قرارات العمال، كما يجب عليهم بعد ذلك نقل المعلومات المهمة إلى العمال بغرض مساعدة العمال على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم، وبهذه الطريقة مجلس العمال ليس طبقة إدارية، بل بدلاً من ذلك فهو يساعد في نقل المعلومات إلى العمال لأغراضهم.

بينما كان كاستورياديس يدعم مؤسسة مركزية أو جمعية مجالس قادرة على اتخاذ قرارات سريعة عند الحاجة جادل بأنّ مثل هذه القرارات يمكن عكسها في جميع الأوقات من قبل العمال ومجالسهم، وفي النهاية قارن كاستورياديس الإدارة الذاتية بالمُثل الفردية أو السلبية التحررية أو الفوضوية أي المُثُل المُعبدة في البلدان الرأسمالية، وترفض مثل هذه الدول دور مجالس العمال لكنها بعد ذلك تصبح بيروقراطية بشكل كبير على أي حال.

وكان قد قارن كاستورياديس أيضًا الإدارة الذاتية مع البيروقراطيات الاستغلالية المركزية بوضوح لما يسمى بالدول الشيوعية، وفي كلتا الحالتين فإنّ ما يمنع ظهور الإدارة الذاتية حاليًا هو الانقسام بين المديرين والمنفذين، في حين أنّ بعض التخصص في العمل سيكون دائمًا ضروريًا فإنّ ما يضر اليوم هو على وجه التحديد هيمنة طبقة مكرسة فقط لإدارة عمل الآخرين.


شارك المقالة: