تفسير سورة البلد

اقرأ في هذا المقال


قوله تعالى: ﴿لَاۤ أُقۡسِمُ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ﴾ صدق الله العظيم[البلد ١] قال الواحدي: أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة، لا أقسم – والمعنى أقسم بهذا البلد، وفي معنى ( لا) وجهان عند أهل العلم هما:

الوجه الأول: بعض أهل العلم قالوا يجوز أن (لا) هنا زائدة، والمعنى: أقسم بهذا البلد، كما أقسم الله تعالى به بقوله: ﴿وَهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِینِ﴾ صدق الله العظيم [التين ٣]، وقد نسب هذا القول للأخفش.

الوجه الثاني: وبعضهم قال: بأنّ (لا) ردٌ لاعتقادٍ تقدم من المشركين ألا وهو إنكار البعث، ثم قال تعالى أقسم بهذا البلد، فابتدأ القسم؛ فقال: أقسم؛ ليكون فرقاً بين اليمين المبتدأة وبين اليمين التي تكون رداً؛ قاله الفراء، وعلى أي حال فالله جل جلاله يقسم بهذا البلد.

مكة أشرف بقاع الدنيا على الإطلاق، هذه البلده التي كنَّاها الله بأم القرُى، فقال الله تعالى: ﴿وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ مُبَارَكࣱ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ یُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ یُحَافِظُونَ﴾ [الأنعام ٩٢] فسمّاها أم القرى يعني أمَّ البلاد تشريفاً لقدرها عند الله تعالى.

قوله تعالى ﴿وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ﴾ صدق الله العظيم [البلد ٢] يعني وأنت في حلٍ ممّا تفعله في فتح مكة، مِن قتل من قتلت في فتح مكة، والمعنى الآخر: هذا قسم بالنبي صلى الله عليه وسلم، في حال وجوده في مكه، وقد شرفها الله تعالى، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الله حرم مكة فلم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف وقال العباس يا رسول الله إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا فقال إلا الإذخر.

قوله تعالى: ﴿وَوَالِدࣲ وَمَا وَلَدَ﴾ صدق الله العظيم[البلد ٣] ولأهل العلم أوجهاً في المقصود منها:

الوجه الأول: قال بعض أهل التفسير: الوالد هو آدم عليه السلام، والولد هو ذريته.

الوجه الثاني: هو إبراهيم، وما ولد من ذريته.

الوجه الثالث: أقسم الله بكل والد وكل ولد.

قوله تعالى: ﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِی كَبَدٍ﴾ صدق الله العظيم[البلد ٤] هناك أكثر من وجه :

الوجه الأول: خلق الله الإنسان مستوي ومعتدل الخِلقة، منصوب القامة، كقوله تعالى: ﴿ٱلَّذِی خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ﴾ صدق الله العظيم[الانفطار ٧].

الوجه الثاني: في شدة وتعب.

الوجه الثالث: في شدائد متتابعه، شده بعد شده، منذ الولاده، إلى أن يموت، قال تعالى: ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ ثُمَّ یَتَوَفَّىٰكُمۡۚ وَمِنكُم مَّن یُرَدُّ إِلَىٰۤ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَیۡ لَا یَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمࣲ شَیۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمࣱ قَدِیرࣱ﴾ صدق الله العظيم[النحل ٧٠].

قال تعالى: ﴿أَیَحۡسَبُ أَن لَّن یَقۡدِرَ عَلَیۡهِ أَحَدࣱ﴾ صدق الله العظيم[البلد ٥] روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي الربيع الدمشقي، عن مكحول قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : “يقول الله تعالى: يا ابن آدم، قد أنعمت عليك نعما عظاما لا تحصي عددها ولا تطيق شكرها، وإن ممّا أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما، وجعلت لهما غطاء، فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك، وإن رأيت ما حرمت عليك فأطبق عليهما غطاءهما. وجعلت لك لسانا، وجعلت له غلافا، فانطق بما أمرتك وأحللت لك، فإن عرض لك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك. وجعلت لك فرجا، وجعلت لك سترا، فأصب بفرجك ما أحللت لك، فإن عرض لك ما حرمت عليك فأرخ عليك سترك. يا ابن آدم، إنّك لا تحمل سخطي، ولا تطيق انتقامي”

قوله تعالى: ﴿یَقُولُ أَهۡلَكۡتُ مَالࣰا لُّبَدًا﴾ صدق الله العظيم[البلد ٦] لُبدا: هو فعل من التبلد، وهو الكثير، بعضه على بعض، قال مقاتل:  نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يكفّر فقال لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قوله تعالى: ﴿أَیَحۡسَبُ أَن لَّمۡ یَرَهُۥۤ أَحَدٌ﴾ صدق الله العظيم[البلد ٧] هل يظن هذا الإنسان أن يفعل ما يشاء ويروح ويغدو عاصياً لله، ولا يراه أحد، وجاء عن أبي هريرة قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (يومئذ تحدث أخبارها) قال ” أتدرون ما أخبارها، قالوا الله ورسوله أعلم، قال فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل كذا وكذا فهذا أخبارها، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا۟ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَیۡنَاۖ قَالُوۤا۟ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَنطَقَ كُلَّ شَیۡءࣲۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ صدق الله العظيم[فصلت ٢١] فالعبد عليه شهودٌ كثرٌ، فلا يظن هذا العبد أنّه لم يره أحد، بل ستشهد عليه أركانه.

يقول تعالى: (أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَیۡنَیۡنِ (٨) وَلِسَانࣰا وَشَفَتَیۡنِ (٩)) صدق الله العظيم، ثم يُذكره الله تعالى بنعمه على الإنسان.

قوله تعالى: ﴿وَهَدَیۡنَـٰهُ ٱلنَّجۡدَیۡنِ﴾ صدق الله العظيم[البلد ١٠] هديناه الطريقين، ونجد: طريق ارتفاع واختلف في معنى النجدين عند أهل العلم:
قيل: هما ثديا المرأة، هدى الله الطفلَ في الصغر ليرضع منهما.

الوجه الثاني:﴿وَهَدَیۡنَـٰهُ ٱلنَّجۡدَیۡنِ﴾ أي بصرناه بطريق الحق وطريق الشر، عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” يا أيها الناس أنّهما نجدان نجد خير ونجد شر، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير “.

ثم قال تعالى: (فَلَا ٱقۡتَحَمَ ٱلۡعَقَبَةَ (١١) وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوۡ إِطۡعَـٰمࣱ فِی یَوۡمࣲ ذِی مَسۡغَبَةࣲ (١٤) یَتِیمࣰا ذَا مَقۡرَبَةٍ (١٥) أَوۡ مِسۡكِینࣰا ذَا مَتۡرَبَةࣲ (١٦) ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ (١٧)) صدق الله العظيم، أي فهلا أنفق ماله في سبيل الله تعالى.

أنواع العقبات:

عقبة الدنيا: تكون في الاستقامة على طريق الله تعالى، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم  “إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقّه”، عقبات الآخرة: فهناك صراط، وميزان، وتطاير صحف، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لَتُؤَدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجَلحاء من الشاة القَرناء)).

قوله تعالى: (مسغبة: مجاعة) قوله تعالى: ﴿یَتِیمࣰا ذَا مَقۡرَبَةٍ﴾ أي ذو قرابة ، قوله تعالى: ﴿أَوۡ مِسۡكِینࣰا ذَا مَتۡرَبَةࣲ﴾ صدق الله العظيم [البلد ١٦] أي: ألصقته الحاجة بالتراب وليس ما يؤويه إلا التراب.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ﴾ صدق الله العظيم[البلد ١٧] قال أهل التفسير: أي أوصى بعضهم بعضاً بالصبرعلى طاعة الله وعن معاصيه وعلى ما أصابهم من البلايا والمصائب والمحن والشدائد، أي : بالرحمة على عباد الله فإنّهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين، واستكثروا من فعل الخير بالصدقة ونحوها.


شارك المقالة: