قال تعالى: ﴿هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِیثُ ٱلۡغَـٰشِیَةِ﴾ صدق الله العظيم، المُخاطب هو: النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كل من قرأ الآيات، (هل) بمعنى: قد أتاك حديث الغاشية، كما ذكر ذلك القرطبي رحمه الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَـٰنِ حِینࣱ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ یَكُن شَیۡـࣰٔا مَّذۡكُورًا﴾ صدق الله العظيم[الإنسان ١] وهي بمعنى: قد أتى على الإنسان.
كلمة الغاشية وجهان لأهل العلم:
الوجه الأول: أنها النار، وسميت بهذا لأنّها تغشى الناس بلهيبها- نعوذ بالله منها- قال تعالى: ﴿لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادࣱ وَمِن فَوۡقِهِمۡ غَوَاشࣲۚ وَكَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ صدق الله العظيم[الأعراف ٤١] وكذلك قوله تعالى: ﴿سَرَابِیلُهُم مِّن قَطِرَانࣲ وَتَغۡشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ﴾ صدق الله العظيم[إبراهيم ٥٠].
الوجه الثاني: أنّها يوم القيامة، وسميت القيامة بذلك لأنّها تغشى الناس بالأهوال والدواهي، وقال به الجمهور ومنهم ابن عباس رضي الله عنه.
فائدة:
الغاشية ، تُطلق على الخير كما تُطلق على الشر، بمعنى الشمول والإحاطة التامة، ومن إطلاقها ما حاء في الحديث: ” ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله- يدرسونه-ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه .
قوله تعالى: ﴿وُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذٍ خَـٰشِعَةٌ﴾ صدق الله العظيم[الغاشية ٢] وهي وجوه الكُفار: يعني خاشعة ذليلةٌ حقيرة.
قال تعالى: ﴿عَامِلَةࣱ نَّاصِبَةࣱ﴾ صدق الله العظيم[الغاشية ٣] عامله في الدنيا كحال النصارى، الذين يعملون ويظنون أنّهم على خير، كما قال الله تعالى عن بعض الكفار: ﴿قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِینَ أَعۡمَـٰلًا (١٠٣) ٱلَّذِینَ ضَلَّ سَعۡیُهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ یَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ یُحۡسِنُونَ صُنۡعًا (١٠٤)﴾ صدق الله العظيم[الكهف ١٠٣-١٠٤]، قوله ناصبة: (ناصبة) قال أهل العلم : أي تعبة يقال نصب بالكسر ينصب نصباً إذا تعب، والمعنى أنها في الآخرة تعبة لما تلاقيه من عذاب الله.
قوله تعالى: ﴿تُسۡقَىٰ مِنۡ عَیۡنٍ ءَانِیَةࣲ﴾ صدق الله العظيم[الغاشية ٥]شديدة الحرارة، أوقد عليها أعوام وأعوام حتى مر عليها أزمان، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة.
قوله تعالى: ﴿لَّیۡسَ لَهُمۡ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِیعࣲ﴾ صدق الله العظيم[الغاشية ٦] الضريع الشوك، وقيل سمٌ قاتل، وقيل، نبات يسمى ( الشبرق).
قوله تعالى:﴿وُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ نَّاعِمَةࣱ﴾ صدق الله العظيم[الغاشية ٨] أي ذات حسن وجمال بسبب التنعم.
قوله تعالى: ﴿فِی جَنَّةٍ عَالِیَةࣲ﴾ [الغاشية ١٠]عالية الدرجة، كما روي عن قتادة حدثنا أنس بن مالك أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء قال: يا أم حارثة إنّها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن أدنىَ أهلِ الجنةِ منزلةً من له سبعَ درجاتٍ وهو على السادِسِة وفوقَه السابعةُ، وإن له ثلاثمائة خادمٍ يُغدى عليه ويُراحُ كل يومٍ بثلاثمائةِ صَحفةٍ ولا أعلَمُه إلا قال: من ذهبٍ في كلِّ صحْفةٍ لونٌ ليس في الأُخرَى، وإنه ليلذُّ آخرها كما يَلذُّ أوَّلها، ومن الأشرِبِة ثلاثمائةِ إناءٍ في كلِّ إناءٍ شرابٌ ليس في الآخرِ، وإنه ليَلذُّ آخِرَه كما يَلذُّ أوَّله، وإنه ليقولُ: أي رب لو أذِنتَ لي أطعمتُ أهلَ الجنةِ وسقيتُهُم لم ينقُص ذلك مما عندي شيئًا، وإن له من الحورِ العينِ ثنتين وسبعينَ زوجةً سوى أزواجِه من الدنيا، وإن الواحدةَ لتقعد مقعدها قدرَ ميلٍ من الأرضِ.
قال تعالى: ﴿لَّا تَسۡمَعُ فِیهَا لَـٰغِیَةࣰ﴾ منزلةٌ أدبيةٌ رفيعةٌ؛ حيث لا تسمع فيها كلمةٍ لغو ولا يليق بها، فهو إكرام لهم حتى في الكلمة التي يسمعونها، كما في قوله تعالى: ﴿لَا یَسۡمَعُونَ فِیهَا لَغۡوࣰا وَلَا تَأۡثِیمًا﴾ صدق الله العظيم[الواقعة ٢٥].
قال تعالى: ﴿فِیهَا عَیۡنࣱ جَارِیَةࣱ﴾ صدق الله العظيم، ومعلوم أنّها عيونٌ وأنهار تجري، وذلك كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونٍ﴾ صدق الله العظيم [الحجر ٤٥] ومن لوازم العيون والأنهار، هو كمال النعيم، فأشجار ورياحين، كما قال تعالى: ﴿فَرَوۡحࣱ وَرَیۡحَانࣱ وَجَنَّتُ نَعِیمࣲ﴾ صدق الله العظيم [الواقعة ٨٩] وهذا التعميم يقابل العين الآنية في الحميم للقسم الأول.
قوله تعالى: ﴿فِیهَا سُرُرࣱ مَّرۡفُوعَةࣱ﴾ صدق الله العظيم [الغاشية ١٣] وهم عليها متكئون، بدل من عمل الآخرين في نصب وشقاء.
قوله تعالى:﴿وَأَكۡوَابࣱ مَّوۡضُوعَةࣱ﴾ [الغاشية ١٤] لإتمام وكمال الخدمة والرفاهية، ثم قال بعد ذلك ﴿وَنَمَارِقُ مَصۡفُوفَةࣱ﴾ [الغاشية ١٥] مُتكأ، يعني وسائد ومرافق مصفوفة غير محتاجةٍ إلى من يصُفها بل صُفت بكرامة الله تعالى لعباده، مُتكأ لهم.
قوله تعالى: ﴿وَزَرَابِیُّ مَبۡثُوثَةٌ﴾ صدق الله العظيم[الغاشية ١٦] أي بُسُطٌ وسجاجيد مفروشة في كل مكان، فاكتمل النعيم من كل جانب، حيث اشتمل ما تراه العين وما تسمعه الأذن، وما يتذوقون طعمه من شرابٍ وغيره، فيكون بذلك غشيتهم النعمة، كما غشيت أولئك النقمة، وتكون الغاشية بمعنى الشاملة.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَلَا یَنظُرُونَ إِلَى ٱلۡإِبِلِ كَیۡفَ خُلِقَتۡ﴾ صدق الله العظيم [الغاشية ١٧] بعد التكلم عن نعيم الجنة، جاء ذكر مخلوقات الله تعالى، من باب التفكر في مخلوقات الله، ومن باب ذكر النعم التي أنعم الله بها على عباده، لذلك قال في سورة النحل قال تعالى: ﴿وَٱلۡأَنۡعَـٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِیهَا دِفۡءࣱ وَمَنَـٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ (٥) وَلَكُمۡ فِیهَا جَمَالٌ حِینَ تُرِیحُونَ وَحِینَ تَسۡرَحُونَ (٦) وَتَحۡمِلُ أَثۡقَالَكُمۡ إِلَىٰ بَلَدࣲ لَّمۡ تَكُونُوا۟ بَـٰلِغِیهِ إِلَّا بِشِقِّ ٱلۡأَنفُسِۚ إِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ (٧)﴾ [النحل ٥-٧]صدق الله العظيم،إنها نعم متعددة ومنافع بالغة لا توجد في سواها البتة، كلٌ منها دليلٌ على القدرة بذاته.
ثم وجه الأنظار إلى الجبال في موطن آخر بقوله تعالى: ﴿وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَیۡفَ نُصِبَتۡ﴾ صدق الله العظيم [الغاشية ١٩] وقد وجه الله الأنظاركذلك إلى الأرض، فالسماء رفعها، والجبال نصبها، والأرض سطحها.
ثم ختم الله السورة بخطابه لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، وتذكيره بوظيفته، فيقول له: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَاۤ أَنتَ مُذَكِّرࣱ (٢١) لَّسۡتَ عَلَیۡهِم بِمُصَیۡطِرٍ (٢٢) إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ (٢٣) فَیُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَكۡبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَیۡنَاۤ إِیَابَهُمۡ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَیۡنَا حِسَابَهُم (٢٦)﴾ [الغاشية ٢١-٢٦] بلغهم حججي وآياتي، وعظهم بالحجج العقلية والمنطقية، وأنت لا تملك هدايتهم.