لَمْ يُروَ عنهُ إلّا القليلَ من الشِّعر؛ ولَعَلَّ رَائيّتَهُ في الشّعرِ، أي قَصيدتهُ التي قافِيتُهَا حرف الرَّاء، هي التي أشْهَرتهُ بين شُعراء العرب؛ وهي التي كانت سبَبَاً في قَتلهِ.
صَاحِبُ المَثَل
المُنَخَّل اليَشكُريّ: هو عمر بن مَسعود بن إبراهيم بن أبَان بن يَشْكُر، ويعود في نسبه إلى نزار بن مَعدّ بن عدنان؛ وأمّه : هي خديجة بنت نُفيل بن عبدالعُزّى؛ وتعود في نسبها إلى عَديّ بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة. وُلِدَ بعد عامِ الفِيل والذي كانَ في سنة (570 م)، وهو عام ولادة النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ بـ
( 14) سنة ، أي وُلِد المُنَخَّلُ سنة (584م)، في الشُّعَيبَة غَرب مَكَّة المُكرّمة ، وكان مقتله قبل البعثة النبوية بثلاث سنوات، وكانت البعثة النبوية الشريفة سنة (610م)، فإذاً مقتل شاعرنا ( مُنخّل الشعر)؛ لأنّهُ نَخَّلَ الشّعر، اي جَعَلهُ قليلاً هَيّنَاً سنة (607م). وَشَبَّ الفتى اليَشكُريّ على دَلالٍ وتَرفٍ، وكان مِمَّن رُزِقوا الوَسَامة والفَصاحة والهِمَّة، وكان له حضور في سوق عُكَاظ.
يَصِلُ الشّاعر النّابغة الذبياني إلى قصر {الخَورنق}، قصر ” النُّعمان بن المنذر” ملك الحيرة؛ وينزل ضيفاً عليه.وكان النُّعمان هذا رجلاً أشقراً ، قصيراً ، دميماً، داهية، أحمراً، أبرشاً؛ قبيح الهيئة، وكانت له زوجة واسمها (المُتَجَرِّدَة ) أجمل نساء زمانها، وكان النعمان يغار عليها بجنون ،وفي ذات يوم شاهدها الشاعر النابغة فجأة في قصر زوجها النعمان (الخورنق) وقد انحنت لتلتقط رِداءها الذي سقط على الأرض لتداري وتغطِّي حُسنها وجمالها ، إلَّا أنَّ النابغة الذي بُهِت من جمالها، فلم يستطع أن يكبح جماح نفسه ،وقام وأنشد قصيدته الشهيرة التي يقول في مطلعها:
مِنَ آلِ مَيّة َ رائحٌ، أو مُغْتَدِ ...... عجلانَ ، ذا زادٍ ،وغيرَ مُزودِ
سَقَطَ النّصيفُ، ولم تُرِدْ إسقاطَهُ .... فتناولتهُ ، واتَّقَتنَا باليَدِ
كالأقُحوانِ، غَداة َ غِبّ سَمائِه .... جفَّتْ أعاليهِ ، وأســفلهُ نديِ
فأرَادَ الملك النعمان قتلهُ، لكنّهُ هرب من الحِيرَة إلى الشّام ومكث فيها زمناً إلى أنْ عفَا عنهُ النعمان بن المنذر؛ وعادَ إليه.
المُنَخَّل اليَشكُريّ والملك النُّعمان
وفي تِلكَ الفَترة يأتي شَاعرنَا المُنَخَّل اليَشكُري إلى قصرِ” الخَورنق”، قصرِ النُّعمان بن المنذر في العِراق، وكان من أجملِ فِتيان العَرب وأرَقّهم شِعراً، وقد قَادتُهُ أقْدامَه إلى النعمان وأصبحَ أحد نُدَمائهِ،
وبطريقةٍ ما شَاهد” المُتجَرّدة” زوجة النعمان؛ فوقعَ في هَواها وأصبحَ لا يُغادر”الخَورنَق” إلّا من أجل أن يعودَ إليه ،
وتقولُ الرّوايات عن علاقةٍ بين المُنخَّل والمُتجرِّدة وكان ضُيوف الحِيرة، يَتهَامَسُون في حضرةِ النعمان بأنَّ أولادَ المُتجرّدة من النعمان يُشبِهُون المُنخّل. وكانَ للنُّعمان يومٌ يركبُ فيه إلى الصَّيدِ فَيُطِيل المُكْث، وكان المُنخّل يأتي المُتجَرّدة في ذلك اليوم الذي يركبُ فيه النعمان فَيُطيلُ عِندها؛ حتى إذا جاء النُّعمان أخبَرتهَا بِمَجيئهِ جاريَةٌ لها مُوكَلة بذلك فَتُخرِجه.
فركبَ النُّعمان ذاتَ يوم وأتَاهَا المُنخَّل كما كان يَأتيهَا فَلاعَبتهُ، وأخَذت قَيداً؛ فَجعلت إحدَى حَلَقَتيهِ في رِجْلِه والأخرى في رِجلِهَا، وغَفَلَت الجارِيَة عن تَرَقُّبِ النعمان لأنَّ الوقت الذي يَجيءُ فيه لمْ يَكُن قَرُبَ بَعد، وأقبلَ النعمان حِينَئذٍ، وَلمْ يُطِل في مُكْثهِ كما كان يفعل، فدَخلَ إلى المُتجرّدة فَوجدها مع المُنخَّل قَد قَيَّدت رِجلهَا ورِجلهِ بالقَيد، فأخذهُ النعمان فَدفَعهُ إلى عِكَبّ صَاحب سِجنهِ لِيُعذّبه ويقتُلهُ؛ وعِكَبّ هذا رجل من قبيلةِ لَخْم، فعذَّبهُ حتى قَتله؛ وأمرَ بإحراقِ جُثَّتهِ،
وأنْ يُذرَّى رمَادها في الرِّياح حتى لا يتَعرّف أحدٌ على مكانِ قبرِ المُنخَّل، وأصدرَ أمراً بأنْ يَلقَى نَفسَ جَزائهِ كلّ من يَذكر اسمه ولو بالمُصَادَفة أو يُنشِد قَصائِده.
وكانت قَصيدتهُ الذي ذَكرَ فيها المُتَجرِّدة زوجة النعمان عندما كان يأتيهَا في القصرِ، والتي بعض أبياتِها تقول:
وَلَقَـــدْ دَخَلْتُ عَلَى الفَتَاةِ ……… الخدْرَ فِي الْيَوْمِ الْمَطِيرِ
الْكَاعِـبِ الْحَسْـنَاءِ تَرْفُلُ …….. فِـي الدِّمَقْسِ وَفِي الْحَرِيرِ
فَدَفَعْتُــــهَا فتَــدَافَعَتْ ……….. مَشْـيَ الْقَطَـــاةِ إِلَى الْغَدِيـرِ
وَلَثَمْتُـــــهَا فَتَنَفَّسَــــتْ ……….. كَتَنَفُّـــسِ الظَّبْـيِ الْبَـهِيـرِ
فَدَنَـــتْ وَقَالَـــتْ يَا مُنَــخَّلُ …… مَــا بِجِسْـمِكَ مِنْ حَرُورِ
مَا شَفَّ جِسْمِي غَـيْرُ حُــبِّكِ …… فَاهْدَئِي عَنِّـي وَسِـيرِي
وَأُحِــبُّـــــهَا وَتُحِـبُّــنِي ……… وَيُحِـــبُّ نَاقَــــتَها بَعِــيــرِي
وإذا رَجعتَ إلى ذاكرةِ التّاريخ، لا تجِد له قصائد؛ باستثنَاءِ هذه القصيدة التي نجحت في التَّصدِّي لسُيوف النعمان، وحَفظَها الرُّواة عن ظهرِ قَلب من شِدّةِ جَمالها وعُذوبتهَا، وهي المعروفة بالقصيدةِ الرّائيّة ” فتاة في القَصرِ”.
وقَد تَحدَّث الشَّاعر النَّمر بن تَولب عن هذا الشّاعر المُنَخَّل اليَشكُري، وعن عودتهِ إلى دِياره التي أصبحت مُستَحيلة؛ حتّى صارت مَثَلاً دَارِجاً في العَربِ؛ لِمَن فُقِدَ منهُ الأمل في العودةِ إلى دِيارهِ وأهلهِ؛ ولِمَن هَلكَ ولَمْ يُعرَف مصيرهُ، فقال في ذلك:
وقَوْلِي إذا ما أطلقوا عن بَعيرِهم…. تُلاقُونه حتّى يَؤوبَ المنخّل