خليفةٌ يلعب بالدبوق والصولجان

اقرأ في هذا المقال


صاحب المقولة

بشار بن بٌرد بن يرجوخ العُقيلي؛ وُلِد سنة 96 هجرية في بادية البصرة عند بني عُقَيل؛ ويُكنّى بأبي معاذ، شاعر مطبوع، وهو إمام الشعراء المُولّدين. وهو أيضاً من الشعراء المُخضرمين الذين عاصروا نهاية الدولة الأموية؛ وبداية الدولة العباسية. وكان والدهُ يرجوخ من سبي المُهلّب بن أبي صُفرة.

ولُقّب بشار بن بُرد أيضاً بالمُرَعَّث، وذلكَ لأنّهُ كان يضع حَلَقاً من الذَّهب في أُذُنهِ، وذلك لِروايَتين: إحدَاهمَا أنَّ والدتهُ فقَدت الكثير من الأولاد، مِمّا جعلها تضع في أُذُنِ صغيرها حَلَقَةً من الذَّهب إيماناً منها أنّه يُطيل العُمُر. والرّواية الثانية تقول: إنَّ من عادات الفُرسِ، ثَقب أُذُن المملوك، حتى لقّبوهم بمَثقُوبي الأُذُن، وانتقلت هذه العادة إلى العرب، وقام بها مَن مَلَكُوا بشار بن بُرد.

وُلِدَ بشار بن بُرد أعمى، وكان من فُحول الشعراء، وسابقيهم المُجوّدين. كان شاعراً غزير الشِّعر، سمح القريحة، كثير الإفتنان في الشِّعر، قليل التَّكلّف.

قال عنه أئمة الأدب: ” إنّه لمْ يكُن في زمن بشار بالبصرة، غزل ولا مُغنّية؛ ولا نائحة، إلّا يروي من شعر بشار؛ فيما هو بِصَدَدهِ”. قيل أنَّ من أجدادهِ من كانوا ملوك فارس. ولذلك كان بشار بن بُرد يفتخر بنسبهِ، في أكثر من موضعٍ في ديوانه؛ كما في قولهِ:

أنا ابن مُلوك الأعجَمين تقَطَّعت*** عليّ ولِي في العَامرين عِمادُ

كان بشار دمين الخِلقة، أعمى، طويلاً، ضخم الجسم، عظيم الوجه، جاحظ العينين قد تَغشّاهما لحم أحمر، فكان قبيح العمى، مجدرة الوجه. وقد ضُرِبَ به المثل لقباحةِ عينهِ؛ فقالوا:” كَعَينِ بشار بن بُرد”. وفي ذلك يقول بشار بن بُرد:

عَميتُ جَنيناً والذَّكاءُ من العَمَى** فجِئتُ عجيبَ الظَّنِّ للعلم مَوئِلا

وكان هجّاءً فاحشاً، مُحبّاً للمَلذّات مُجَاهِراً بها، حتى عُرِف مُجاهرتهُ بالسُّكرِ والزِّنا، كذلك كان بذيء اللّسان، شديد الأذى، وكان ثابت الرأي، شجاع القلب. هجى الخليفة العباسي” المهديّ”، ووزيرهُ” يعقوب بن داود”؛ وقد عَرَّضَ بالأصمعي وسيبويه، والأخفش وواصل بن عطاء.

قصة المقولة

كان بشار بن بُرد من المُقرَّبين للخليفة العباسي المهدي، ووصلَ الحال ببشار أن يتجرّأ بالسُّخرية من خال الخليفة” يزيد بن منصور الحِميَري”، فدخل بشار يوماً مجلس الخليفة المهدي؛ وبدأَ يُنشِدهُ قصيدة ويمدحهُ فيها؛ فلمّا انتهى من قصيدتهِ، سألهُ” يزيد بن منصور الحِميَري” خال الخليفة، وقال له: يا شيخ ما صِناعتُك؟ فأجابهُ بشار بن بُرد، وقال له: أثقُبُ اللؤلؤ! فضحك الخليفة المهدي؛ ولكنه استرجعَ ونَهَرهُ قائلاً: ويلكَ! أتَتندّرُ على خالي؟ فقال بشار: وما أصنع بهِ! يرى شيخاً أعمى؛ يُنشد الخليفة شِعراً ويسألهُ عن صناعتهِ. فطردهُ الخليفة ولمْ يُعطهِ جائزةً لِقاءَ مدحهِ له.
ثمَّ بدأت علاقة بشار بالخليفة تسوء، بعد أنْ نقلوا للخليفة بَيتَين قالهُما في نُصحِ شابٍّ أعياهُ ما يُريد من امرأةٍ مُحجّبة؛ فنصحهُ بشار قائلاً:

لا يُؤيسنّكَ من مٌخبّأةٍ
قولٌ تُغلِّظه وإنْ جَرحا
عُسرُ النساء إلى مُيَاسرةٍ
والصَّعب يُمكن بعدما جَمَحا

فاتّبعَ هذا الشَّاب نصيحة الشاعر بشار بن بُرد، فثابر في سعيهِ وراء المرأة حتى أجابتهُ إلى هواه، فقام الشاب وكافأ الشاعر بمائتي دينار. فسمع بذلك الخليفة المهديّ؛ فاستدعى بشار واستنشدَهُ ما قال؛ ففعل. فغضب عليهِ الخليفة وشتمه؛ وقال له: أتَحضُّ النساء على الفجور؛ وتقذف النساء المُحصَنات المُخبّآت. ثمَّ قطع عنه العَطاء، فاغتاظ لذلك بشار بن بُرد، وقام وهجا الخليفة المهدي؛ وقال فيه:

خليفةٌ يزنِي بعمّاتهِيلعبُ بالدّبوقِ والصّولجانِ
أبدَلنَا الله به غيرَهُودسَّ موسى في حِرِ الخَيزرانِ

وأنشدَ البيتَين أمام يونس النَّحوي، فسعى بهِ إلى وزير الخليفة” يعقوب بن داود”، وكان بشار قد هجاه قبل ذلك فقال فيه:

بَني أمَيَّة هبّوا طال نومكم*** إنَّ الخليفة يعقوب بن داود.
ضَاعت خلافتكم يا قَوم فالتمسوا***خليفة الله بين العُودِ والنَّاي.

كان الوزير يعقوب بن داود ينتظر أنْ تأتيهِ هذه الفرصة، فأسرع إلى الخليفة المهدي وقال له: يا أمير المؤمنين؛ إنَّ هذا الأعمى المُلحد الزِّنديق المَدعو بشار قد هجاك. فقال: بأيِّ شيءٍ؟ فأجابهُ قائلاً: بِما لا ينطقُ به لساني، ولا يَتوهّمهُ فِكري. فألحَّ عليه الخليفة؛ ولكنه ظلَّ يَتمنَّع، وقال: لو خَيّرتني بين إنشادي إيّاه وضرب عُنُقي؛ لاخترت ضرب عُنقي.

وبقي الخليفة يَلحُّ عليه حتى توصّلا إلى حلٍّ وسط؛ بأنْ يكتب له ما قاله الشاعر على ورقة؛ ففعل. وعندما قرأها الخليفة كاد أنْ ينشقَّ غيظاً، ثمَّ ذهب إلى البصرة للنَّظرِ في أمرها. فسمع الخليفة أذاناً في ضُحر النهار، فسأل عن ذلك؛ فإذا به بشار في حالة سُكرٍ شديدة؛ فقال له: أنا هو بالأمان في غير وقت الصلاة، وأنت سكران؛ ثمَّ أمَرَ بضربهِ سبعين سوطاً.
فكان إذا أصابهُ السوط صرخَ قائلاً: حَسْ.. حَسْ؛ وهو ما تقولهُ العرب للشيء إذا أوجع. فقالوا له: لماذا لا تقول بسم الله؟ فقال: وَيلكُم! أهو طعام فأسمِّي عليه؟ وقال له آخر: أفلا قُلتَ الحمد لله؟ فقال: أهيَ نعمة؛ فأحمُد الله عليه؟ فما زالوا يجلدونهُ حتى مات، فأُخرجت جنازتهُ، فما تَبعهُ أحد إلّا جارية أعجمية سوداء؛ وتقول وراءهُ: واسيّداه. وذلك لأنَّ النَّاقمين عليه كُسر، بسبب حسدٍ أو هجاء، فلم يبقَ له أصدقاء في البصرة، إلّا وقد هجاهم بشار، أو اتّقَوا شرَّ لسانهِ فابتعدوا عنه.

وقد توفي وقد تجاوز السبعين، وتأكّدَ ذلك في بيت شِعرهِ الذي يقول فيه: وحسبُكَ أنّي منذ ستّين حِجَّةً** أكِيدُ عفاريت العِدا وأُكَادُ.


شارك المقالة: