كان جيوفان باتيستا فيكو Giovanni Battista Vico فيلسوفًا سياسيًا وخطيبًا ومؤرخًا وفقيهًا إيطاليًا حيث انتقد توسع وتطور العقلانية وكان مدافعًا عن العصور الكلاسيكية القديمة، وكانت رؤيته الخاصة للإنسان والكون وفي الوقت الذي كانت فيه الطريقة الاستنتاجية التي أدخلها ديكارت في الموضة هي المستخدمة كثيرًا طرح مشكلة المعنى الحديثة وهي الإحساس بالحياة والتاريخ، حيث اكتشف اللاعقلاني الشعلة الصغيرة التي تنمو في أوقات معينة بشكل غير محسوس في قلب العقل.
تطور المجتمعات البشرية لدى الفيلسوف فيكو:
كما لقد أدركت فلسفته تطلعات البشرية وهواجسها وأحلامها وإنجازاتها المحفوفة بالمخاطر وإحباطاتها وهزائمها، ووصف المجتمعات البشرية بأنّها تمر بمراحل النمو والانحلال:
- عصر الآلهة: وهي الحالة الأولى وتتصف بالوحشية أو الهمجية، بحيث يحكم الإنسان الخوف من ما هو فوق الطبيعي.
- عصر الأبطال: وهو نتيجة التحالفات التي شكلها قادة الأسرة للحماية من المعارضة الداخلية والهجمات الخارجية حيث في هذه المرحلة ينقسم المجتمع بشكل صارم إلى الأرستقراطيين والعامة.
- عصر الرجال: وهي المرحلة التابعة لما قبل كنتيجة للصراع الطبقي الذي يحقق فيه العامة حقوقًا متساوية ولكن هذه المرحلة تواجه مشاكل الفساد والانحلال واحتمال العودة إلى الهمجية البدائية، وقد أكد فيكو أنّ العناية الإلهية يجب أن تصحح مسار التاريخ حتى لا تغرق البشرية في كوارث متتالية.
سبب عدم تكافئ الطبقات الإجتماعية في فلسفة فيكو:
وفقًا لفيكو يجب أن يُعزى أصل الطبقات الاجتماعية غير المتكافئة والتي غالبًا ما تحتفظ بصلابة الطبقات البدائية إلى أشكال غير كاملة من الدين وليس إلى التقدم التكنولوجي، حيث تستند كل أنثروبولوجيا فيكو إلى تأكيد الأسبقية المطلقة للدين وهو ما اقترحه عليه بلا شك فكر جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا (Giovanni Pico della Mirandola) والذي يعد فيلسوف عصر النهضة الإيطالي.
مبادئ المجتمعات البشرية الموحدة في فلسفة فيكو:
لاحظ فيكو أنّ هناك ثلاثة مبادئ سائدة في ولادة وتجديد الأمم أي كل الناس لديهم دين ويتم الاحتفال بالزيجات الرسمية بينهم ودفن الموتى عادة بشرية وعالمية، كما أنّ التواضع والتقوى هما أساس المشاعر الأخلاقية وهما الدعائم التي تقوم عليها الأسرة، وعندما ينهارون يتسارع النزول نحو الحالة الوحشية للإنسان، ودون أن يقول ذلك صراحة اعتقد فيكو أنّ الانحطاط الذي أصاب الأديان الوثنية في العصور القديمة يمكن أن يتجاوز حتى ما كان يمثل الدين الحقيقي بالنسبة له وهي المسيحية التي أنشأت الأديرة كملاجئ من العالم وضمنت نقاء المشاعر والأخلاق.
الفكرة الأساسية الثانية لفيكو هي أن الإنسان له طبيعة مختلطة بمعنى أنّه هو يظل أقرب إلى الوحش منه إلى الملاك، كما أنّه النسبة لفيكو فإنّ المرحلة الثانية من البربرية والوحشية والتي تغلق عصر الرجال تنشأ من الإفراط في التفكير أو من هيمنة التكنولوجيا كما أنّ هذه المرحلة تبشر ببداية جديدة وشيكة للتاريخ.
إن الانحراف الأساسي للمرحلة الثانية من البربرية يجعلها في الواقع أكثر خطورة من الأولى والتي تحتوي في فائض قوتها على دوافع نبيلة لا تحتاج إلّا إلى السيطرة عليها، ويصبح الإنسان جبانًا وكافرًا ومخبرًا ويخفي نواياه الشريرة وراء التملق والنفاق.
وتعيش العائلات متجمعة معًا في مدن ذات مجسات “صحاري أرواح” حقيقية، ولا تتردد هذه الشعوب المنحلة في الاندفاع نحو أسوأ العبودية بحثًا عن مأوى وحماية حيث يصبح المال هو القيمة الوحيدة، وهذا الانحلال من عصر الرجال إلى الحالة البهيمية والوحشية يعرض البشرية لمصير أسوأ بكثير من الاعتقالات أو تراجع الحضارات، وكان فيكو يأمل في تحذير الرجال من الشرور التي يمكن أن تتفوق عليهم إذا أصبحوا عبدة أيديولوجية مادية أو خدمًا لعلم غير مدرك للضمير.
تأثير فلسفة فيكو في الفكر العالمي:
“لكن طبيعة عقولنا المتحضرة منفصلة تمامًا عن الحواس وحتى في المبتذلة أو السوقية، وذلك عن طريق التجريدات المقابلة لجميع المصطلحات المجردة التي تكثر فيها لغاتنا وصقلها فن الكتابة، وكما تم إضفاء الروحانيات عليها باستخدام الأرقام لأنّه حتى المبتذلين يعرفون كيف يحسبون، وأنّه بطبيعة الحال يفوق قدرتنا تكوين الصورة الواسعة لهذه العشيقة المسماة الطبيعة المتعاطفة.”
الفيلسوف جيامباتيستا فيكو
يصوره معاصرو فيكو في شيخوخته بأنّه يستيقظ بشكل متقطع من إجهاده ليبتعد عن السطور النبوية أو للتعليق على نص من بعض المؤلفين الكلاسيكيين لعدد قليل من التلاميذ المتبقين له، كما شعر بالرضا في حقيقة أنّ ابنه الأكبر جينارو خلفه في كرسيه في الجامعة، وتوفي فيكو محاطًا بالناجين الثلاثة من عائلته اللذين وافتهم المنية لأسباب عدة وآخرها وفاة غبنه إجناسيو بعد وقت قصير من إطلاق سراحه من السج، ونظرًا لأنّ درج منزله كان ضيقًا جدًا بحيث لا يسمح بمرور نعشه كان لا بد من إنزاله من خلال النافذة ثم تم نقله بشكل غير رسمي إلى كنيسة الكهنة الأوريتوريين حيث لا تزال رفاته محفوظة.
فلسفة فيكو والكاتب جوته (Goethe):
بالرغم من المعاناة والفقر الذي عاشه فيلسوفنا إلّا أن علمه وفكره وفلسفته لاقت صداها في النهاية حيث تلقى يوهان فولفجانج فون جوته (Johann Wolfgang von Goethe) الكاتب الألماني العظيم نسخة من الطبعة الثانية من علم جديد – (Scienza nuova) من طالب متحمس لفيكو زار في نابولي عام 1787، وفي مقال نُشر في نفس العام تحدث جوته (Goethe) عن الكاتب الميت الذي يتم الإشادة بالحكمة الآن إلى ما لا نهاية من قبل الكتاب القانونيين الإيطاليين، وقال إنّ العمل قد سلم إليه كما لو كان شيئًا مقدسًا وأنّه يحتوي على رؤى نبوية حول موضوع الخير والعدل الذي سنحققه أو يجب أن نحققه في المستقبل، وهذه الرؤى مبنية على التأمل الرصين عن الحياة وعن المستقبل.
وجوته Goethe يعرض مقتنعًا بقوة عرض فيكو، حيث اعتقد منذ ذلك الحين أن تطور البشرية يجب أن يتم تمثيله ليس بخط تصاعدي مستمر ولكن من خلال دوامة، ومع ذلك يبدو أنّ عمل فيكو لم يُقرأ على نطاق واسع خلال القرن الثامن عشر.
تأثير فلسفة فيكو في القرن التاسع عشر:
أما في القرن التاسع عشر أطلق جول ميتشيليت (Jules Michelet) وهو مؤرخ قومي ورومانسي كبير لفرنسا على فيكو لقب (محب العمل الخاص به – his own Prometheus) ورائد فكره، وقد تخلى ميتشيليت في النهاية عن فكرة اللجوء إلى العناية الإلهية لكنه استمر في الاستشهاد بسلطات فيرجيل وفيكو.
بينما أشاد أوغست كونت (Auguste Comte) الفيلسوف الوضعي الفرنسي بفيكو باعتباره تأثيرًا في صياغة قانونه للدول الثلاث أو العصور للبشرية، أما كارل ماركس(Karl Marx) الذي طور تفسيرًا اقتصاديًا للتاريخ كان مدينًا لفيكو أكثر بكثير مما اعترف به، حيث في الواقع كانت هناك علاقة وثيقة من الاعتماد في أعماله عن التاريخ من أعمال فيلسوفنا فيكو، ومع ذلك فقد انفصلوا بسبب اختلافهم الكبير على الدين.
تأثير فلسفة فيكو في القرن التاسع عشر:
في القرن العشرين اعترف العديد من العلماء في فيكو بأنّه رائد علوم الأنثروبولوجيا وعلم الأعراق البشرية، وفي الواقع على الرغم من غموض أسلوبه يُعتبر فيكو الآن أحد الشخصيات المهمة في التاريخ الفكري الأوروبي وقد تم قبول ( العلم الجديد – Scienza nuova) كواحد من الأعمال البارزة في ذلك التاريخ.