يُعرف الكاتب والأديب أنطون تشيخوف وهو من مواليد دولة روسيا من أهم وأبرز المؤلفين الذين برزوا في كتابة وتأليف الأعمال الأدبية، وقد صدر عنه مجموعة كبيرة من الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات، وقد اعتبره الأدباء من رواد الكُتاب الروس وأفضلهم على مرّ التاريخ، ومن أكثر الروايات التي حققت له نسبة مبيعات عالية وشهرة واسعة حول العالم هي رواية عنبر رقم 6 أو ما تعرف أحياناً بالجناح 66، والتي تم تجسيدها في العديد من المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية.
رواية عنبر رقم 6
في البداية كانت تدور وقائع وأحداث الرواية حول إحدى المستشفيات التي تُعنى بمعالجة من الأمراض العقلية، وفي ذلك المستشفى توجد هناك صالة واسعة وكبيرة يطلق عليها اسم الجناح رقم 66، وهذا المستشفى يوجد في إحدى المناطق الريفية، كما كان يلحق به الكثير من الانتقادات، حيث أنه كان لا يمتلك إدارة جيدة على الاطلاق فكل شيء فيه غير منظم وتدب فيه فوضى عارمة، وعلاوة على كل ذلك كان لا يعرف طريق النظافة على الاطلاق، فقد كان قذر إلى درجة كبيرة.
وفي ذلك الوقت كان يقيم في تلك الصالة الكبيرة ما يقارب خمسة وعشرين شخصاً لديهم أمراض عقلية، وتدب بينهم الفوضى والأوساخ من كل جانب، حيث أنه لا يوجد من يقدم لهم العناية والاهتمام سوى شخص واحد فقط، وكيف أن لشخص واحد بمفرده أن يتمكن من الاهتمام بالمرضى ونظافة المستشفى في آن واحد، كان ذلك الشخص يعمل كحارس على المستشفى، كان ذلك الحارس شخصية قاسية وشديدة جداً، وبالإضافة إلى ذلك كان شخص عنيف إلى درجة كبيرة، بحيث أنه سرعان ما يتوجه إلى استخدام العنف عندما يثورون المرضى أو تنتاب أحدهم نوبة عصبية.
وفي أحد الأيام من محض الصدفة يمر من جانب المستشفى طبيب يدعى اندريه، وقد كان ذلك الطبيب ما زال شاباً، وحين يدخل إلى المستشفى ويطلع على كامل ما يحدث به عزم على تولي مسؤوليته على عاتقه، وقد كان يبدو أن ذلك الطبيب من الأشخاص الكريمين والطيبين، وكان حينما ينظر إلى أهل البلدة التي يقع بها المستشفى يشعر بالحزن والأسى على حالهم.
وفي ذلك الوقت كان الطبيب غير راضي عن الحالة بأكملها، وقد أشار إلى أن الطب وتقديم العلاج للمرضى وحدة لا يكفي في ظل تلك الظروف التي تحيط بالبلدة، وهذا الأمر جعل القلق ينتابه في غالبية الوقت، وفي تلك الأثناء يلتقي بأحد المرضى المقيمين في المستشفى، وهنا انصدم حيث أنه أدرك أن هذا المريض هو في الحقيقة شخص واعي تماماً كما أنه كان يتمتع بذكاء خارق، إذ مدرك لجميع ما يحيط به ومطلع على أحوال العالم، لكنه ما يعاني منه هو عقدة الاضطهاد فقط.
ومن هنا يبدأ بين الطبيب والمريض تعارف ويصبحان صديقان، وفي كل مساء كان الطبيب يتبادل الحديث مع صديقه المريض، فيخوضان في حوارات ومناقشات واسعة تطول وضع كل منهما والأوضاع العامة في البلاد، وفي إحدى الليالي يمر مساعد الطبيب والذي يدعى هوفي من جانبهم، وبعد مشاهدته لتكلمهم سوياً يعتقد أن الطبيب لحق بالمرضى وأصبح مثلهم مختل عقلياً، وقال حينها: لا يتبادل الحوار مع مجنون إلى مجنون مثل، وهنا سرعان ما توجه المساعد إلى الإدارة وأخبرهم بما رآه، وعند مواجهة الطبيب بالأمر قدم استقالته على الفور، ولم يكن يعرف السبب خلف تلك الاستقالة، وكل ما تمت معرفته هو أن الطبيب قد أصيب بخيبة أمل من كلام الإدارة.
وبعد مضي العديد من التصرفات والسلوكيات التي كان يتخبط بها مساعد الطبيب والإدارة أمام أعين الطبيب أدرك ما يريدون التوصل إليه، ألا وهو الإيقاع به ووضعه في المستشفى مع الأشخاص المجانين، حيث صرحوا جميعهم أنه لا يمكن لشخص أن يستخدم أسلوب العقل والحكمة في التحدث مع شخص لا يدرك أي شيء عنهن، وهنا ينتهي الأمر به إلى أن يوضع في ذات الصالة الكبيرة مع المختلين عقلياً، وكأنه أحد المرضى وليس طبيب معالج، ومنذ تلك اللحظة تبدأ الصراعات والمجابهات بينه وبين الحارس العنيف، حيث أن الطبيب في السابق كان كثير ما يقسو عليه بسبب تصرفاته مع المرضى وطريقته في تعنيفهم.
وفي أحد الأيام كان الطبيب يرغب في الخروج إلى ساحة المستشفى من أجل أن يستنشق بعض الهواء، وهنا سرعان ما يعترض طريقه الحارس ويقوم بضربه على منطقة الرأس ضربة قوية جداً، والتي أدت إلى وفاته بشكل فوري، وذلك لأنه الطبيب كان يعاني من أحد الأمراض في السابق، ولكنه لم يشعر به أحد في يوم من الأيام.
أراد الكاتب أن يصور للقارئ الأحداث التي حصلت مع الطبيب، حيث أنه أمضى ما يقارب على العشرين عام في مهنة الطب، وعلى الرغم من ما قد مرّ به، إلا أنه لم يخبر أحد في يوم من الأيام أنه مصاب بداء، وما ساهم في ذلك أنه لم يكن يشعر بالألم ولم يريد أن يعرف هذا في أي وقت، لكنه في النهاية أصطدم به ولمدة يوم واحد فقط، وأخذ يعاني من أشد قسوة في الألم، ولم يقوى على التحمل فسرعان ما توفي، في صباح اليوم التالي بعد أن وضعوه في الصالة الكبيرة لمستشفى المجانين، وكأنه واحد منهم، وقد تناسى الجميع أنه بقي يخدم لمدة عشرين عام فيه.
ومن خلال الرواية أشار المؤلف إلى تلك الحبكة هو من وظفها بطريقة عقلانية، حيث أنه أراد أن يكشف من خلالها زيف الادعاء من قبل النفوس التي تتسم بالغباء والمرائية والبليدة، حيث أنها كانت التي تسيطر على مصائر البشر وتتحكم بها، وعلى ووجه الخصوص أراد أن يشير إلى فئة المثقفين والعلماء والمخلصين في العمل، حتي يدعون عليهم بالجنون.
وتلك النهاية كانت الميزة التي تسيطر على غالبية روايات الكاتب، حيث أنه في معظم لحظات حياته وعمله وقوته كان يتوجه بتفكيره إلى المصير الإنساني وهو يعتريه الحزن والألم على ذلك الواقع، وبالأخص إلى المصير الذي يتلقاه كل شخص عاقل ومثقف في نهاية المطاف، وهذا ما تميز به الكاتب الروسي عن غيره من الكُتاب، وعلى أثر ذلك تم اعتباره رائداً من رواد الكتابة السوداوية التي سوف تستشري في القرن العشرين، كما أنه حين كان يتوصل القارئ والمتلقي إلى نص الحوار الذي كان يجري بين الطبيب والمريض العاقل والجلسات المسائية التي كانا يتسامران فيها معاً يكتشف أنه كان يتحدث عن نفسه، ففي الكثير من الروايات التي كان تصدر عن أنطوان تشيخون كانت تعبر عن جزء من السيرة الذاتية لحياته.