سكت ألفا ونطق خلفا

اقرأ في هذا المقال


تنفرد كل أمة من الأمم وتتميز بما تمتلك من موروث ثقافي، والذي بدوره يمثّل ويصوّر الكثير من الوقائع والمناسبات، التي حصلت خلال التاريخ، ولعل من أكثر أنواع التراث شهرة “الأمثال الشعبية” والحكم، ويقوم الناس باستخدام هذه الأمثال أو الحكم إذا مرّوا بظرف أو حدث مشابه للحدث الأصلي الذي قيلت فيه تلك الأمثال، فيعبرون عنه بمثل أو حكمة، وهكذا تبقى محفوظة، ويتداولها الناس جيلًا بعد جيل مع إضافة ما استجد من أمثال تعبر عن أحداث الحاضر، والمثل الذي سنتناوله لاحقًا، هو: “سكت ألفًا ونطق خلفًا”.

فيم يضرب مثل “سكت ألفًا ونطق خلفًا”؟ ومن هو صاحبه؟

“سكت ألفًا ونطق خلفًا” هو مثل عربي له حكاية في تاريخ العرب المشرق: سكت ألفًا ونطق خلفًا؛ أي رديئا، ويُضرب هذا المثل في المرء يطول صمته ثم يتكلم بالقبيح من القول، ويُقال إن أول من قاله هو “الأحنف بن قيس”.

قصة مثل “سكت ألفًا ونطق خلفًا”:

أشرنا أعلاه إلى أن أول من أطلق هذا المثل هو “الأحنف بن قيس“، حين صاحبه رجل طويل الصمت، فاستنطقه الأحنف يومًا؛ فقال: أتقدر يا أبا بحر أن تمشي على شُرف المسجد؟ فقال الأحنف: سكت ألفًا، ونطق خلفًا، وهذا يذكر بجليس الإمام أبي يوسف، وقد كان كذلك طويل الصمت، فقال له أبو يوسف: ألا تتكلم؟ فقال: بلى، متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غابت الشمس. قال: فإن لم تغِب إلى نصف الليل؟ قال: فضحك أبو يوسف، وقال: أصبت في صمتك، وأخطأت أنا في استدعاء نطقك، ثم تمثل بقول الشاعر:

“عجبت لإزراء العييِّ بنفسه         وصمت الذي قد كان للقول أعلما

وفي الصمت ستر للعييِّ، وإنما           صحيفة لبِّ المرء أن يتكلما”.

العبرة من مثل “سكت ألفًا ونطق خلفًا”:

الصمت فن قد لا يجيده كثير من الناس، وهو في الحقيقة بلاغة وبيان عندما نحتاج إليه، وفيه سؤدد ومهابة، فالإنسان الصامت كهف مهاب لا يعرف حتى يتحدث، قابل رجل لقمان الحكيم الذي ذكره الله تعالى في كتابه، وذكر بعض وصاياه، فقال: أنت لقمان؟ قال: نعم، قال: أنت عبد بني فلان؟ كان يعرف أنه عبد عند جماعة، قال: نعم، قال له: أنت الذي كنت ترعى الغنم عند الجبل الفلاني؟ قال: نعم، قال: فما الذي صيرك إلى ما وصلت إليه؟ قال: بصدق الحديث، وطول السكوت عما لا يعنيني.

قد كان السلف -رحمهم الله- يعلمون أبناءهم فن الصمت عند الحاجة إليه كما يعلمونهم حسن البيان وجودة الحديث، وقد قال أبو الدرداء -رضي الله عنه- يوصي أصحابه يوما: تعلموا الصمت، كما تتعلمون الكلام، وقد نقل الأحنف عن أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- قوله: “من كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل ورعه، ومن قل ورعه قل حياؤه، ومن قل حياؤه مات قلبه”، وإن كثرة الكلام لا تدل على عمق المتحدث ولا صحة حديثه، كما أنه لا تلازم قط بين الصمت والجهل بل إن بعض أهل العلم حين قيل له: هل العلم فيما سلف أكثر، أو اليوم أكثر؟ قال: العلم فيما سلف أكثر، والكلام اليوم أكثر.


شارك المقالة: