شعراء عباسيون في غياهب السجون

اقرأ في هذا المقال


شعر السجن سمة واضحة المعالم في الشعر المشرقي منذ القدم وانتشر بالعهد العباسي بشكل كبير، فنشاهد رواد الأدب الذين سجنوا نتيجة هجائهم أو مدحهم وآخرون لأنهم نظموا القصائد، ورافق تمكُّن العباسيون من السلّطة الكثير من الخلافات السياسية والثقافية وبرزت الفِرق التي عادت بعضها البعض، ولم يتهاون العباسيون مع خصومهم وزجّوا بهم في ظلمات السجون، ومن هؤلاء هم الأدباء الذين عانوا كثيرًا جراء ذلك وفي هذا المقال سنتناول معاناتهم وآلامهم من خلال أدبهم في هذه الظلمات.

السجون في العصر العباسي

إن السجون متعلقة بتاريخ أهل المشرق وله أثر في أدبهم منذ الأزل، حيث زُجَّ الأدباء في السجون ونظم على ألسنتهم الكثير من الشعر الذي يصور تلك الظلمات، ويصف حالهم فيها وما ذاقوا من تعذيب وألم، كما تكلموا عن صبرهم وقوتهم أو ضعفهم، وللسجون في ذلك الوقت أنواع كثيرة ونذكر منها:

1- المركزية: مثل سجن الكوفة وكذلك سجن سامراء، والمطامير وغيرها الكثير.

2- السجون الخاصة: وهي سرية تحمل صفة الخصوصية يُزجُ بها كبار القادة ورجالتها المعروفين وتكون بمثابة دور أو غُرفة في القصور.

3- النفي والاستبعاد إلى الجزر: منها جزيرة دهلك وإقرَيطش.

الخوف والرهبة من السجن في العصر العباسي

خاف رواد الأدب في تلك الفترة من الحكم العباسي وبطشهم ومن تقلبهم، ولقد نقلت العديد من الروايات وتحدثت عن الحكم العباسي وكيف نشروا الرعب في قلوب الناس، وخصوصًا رواد الأدب والعلم الذين يتوقعون الأسر أو النفي في أي لحظة.

ومن الروايات المتناقلة في تلك الفترة أن أن الرشيد قد طلب من أبو العتاهية وأرسل له من يحضره إليه لكن دون إخباره عن سبب استدعائه، وعندما وصل إلى منتصف الطريق أخبره أحدهم أنه يريد قتله فنظم أبو العتاهية:

ولعل ما تخشاه ليس بكائنٍ

ولعل ما ترجوه سوف يكون

ولعل ما هونت ليس بهينٍ

ولعل ما شددت سوف يهون

كما نرى في مقطوعات دعبل الخزاعي استنكاره من ظلم الحكام واستبدادهم بعد أن حملوا أنفسهم بالعجم الذين أحاطوا بهم من كل صوب ويقول في ذلك: 

لقد ضاع أمر الناس إذ ساس ملكهم

وصيفٌ أشناس وقد عظم الكربُ

رواد الأدب يُعانون في ظلمات السجن التي زجوا بها وأهملوا فيها ومُنعت عنهم كل متاع الحياة فأصبح كالميت المُنسى وعن ذلك يقول أبو دلامة:

ولو معهم سجنت لكان سهلاً

ولكني سُجنتُ مع الدجاج

كلام أبو دلامة السابق يوضح خوفه من السجن والذل الذي ذاقه بسبب حبسه مع الدجاج بعد مكانته الكبيرة في عصره، ولقد برز من هذا الخوف نوعًا من الكلام المنظوم يعرف بالاستجداء وطلب الكرامة وما يقيهم الجوع والهلاك وعن ذلك يتحدث أبو العتاهية:

أَلا شافِعٌ عِندَ الخَليفَةِ يَشفَعُ

فَيَدفَعَ عَنّا شَرَّ ما يُتَوَقَّعُ

وَإِنّي عَلى عُظمِ الرَجاءِ لَخائِفٌ

كَأَنَّ عَلى رَأسي الأَسِنَّةَ تُشرَعُ

يُرَوِّعُني موسى عَلى غَيرِ عَثرَةٍ

وَمالي أَرى موسى مِنَ العَفوِ أَوسَعُ

كما ظهر خوفهم على الأبناء والأهل من الذل والجوع إذا ظلّ مرميًا في ظلمات السجن، وعن ذلك يقول تميم بن جميل:

وما جزعي من أن أموت وإنني

لأعلم أن الموت شيء مؤقَّتُ

ولكن خلفي صبية قد تركتهم

وأكبادهم من حسرة تتفتتُ

كأني أراهم حين أُنعى إليهم

وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا

فإن عشتُ عاشوا خافضين بغبطة

أذود الرّدى عنهم وإن من موّتوا

التحدي والصبر في السجن

إن السجن من المواقع التي يتجلى فيها الصبر وتختفي فيه مفردات الرفض والتمرد وتضعف من خلالها همم المحتجين وتُربط فيه الألسنة، ومن النصوص التي خطت على أبواب السجون في ذلك الوقت: ” هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء وتجربة الصديق وشماتة الأعداء، تنزو وتلين.”

كانت أحاسيس الغضب والسخط هي العواطف المسيطرة التي تعج بها نفوس من دخل ظلمات السجن من رواد الأدب، وكان إظهارها يجني عليه أو يزيد في مدة سجنه فيصبر ويتحمل الألم وعن ذلك يقول إبراهيم ابن المدبّر:

تَسلي ليس طولُ الحبس عارا

وفيه لنا من الله اختيار 

فلولا الحبس ما بلي اصطبارٌ

ولولا الليل ما عُرف النهارُ

وما الأيام إلا نُعقباتٌ

ولا السلطانُ إلا مُستعار

سيفرج ما ترين إلى قليل

مقدرة وإن طال الإسارُ

لقد عوَّد الشعراء أنفسهم مع أوضاع السجن وروضوا أنفسهم على الصبر والتحدي وإيمانهم بأن هذه الظلمة ستزول في النهاية مهما طالت، وعن ذلك يتحدث المتنبي عندما توعده أبو دلف بالخلود في غياهب السجن:

أَهوِن بِطولِ الثَواءِ وَالتَلَفِ

وَالسِجنِ وَالقَيدِ يا أَبا دُلَفِ

غَيرَ اِختِيارٍ قَبِلتُ بِرَّكَ بي

وَالجوعُ يُرضي الأُسودَ بِالجِيَفِ

كُن أَيُّها السِجنُ كَيفَ شِئتَ فَقَد

وَطَّنتُ لِلمَوتِ نَفسَ مُعتَرِفِ

لَو كانَ سُكنايَ فيكَ مَنقَصَةً

لَم يَكُنِ الدُرُّ ساكِنَ الصَدَفِ

اليأس والشكوى داخل السجن في الشعر

أثرت الليالي الطويلة التي أمضاها الأدباء في ظلمات السجن في ذاتهم وتملك الوهن واليأس منهم وأضعفت في عزيمتهم، فأخذوا يصورون أنفسهم بهذه المقطوعات حيث وصفت عن ما بداخلهم ونرى المتنبي شاكيًا وقد أضعفه السجن:

دعوتك عند انقطاع الرجا

ء والموت مني كحبل الوريد 

دعوتك لما براني البلى

وأوهن رجلي ثقل الحديد

ومن رواد الأدب الذين لم يستطيعوا تحمل السجن ونفِذ صبرهم فراحوا يذرفون الدموع ويتذللون ويشكوا لعلهم يلقوا مخرجًا علي بن الجهم فأنشد:

فَقُلتُ لَها وَالدَمعُ شَتّى طَريقُهُ

وَنارُ الهَوى بِالشَوقِ يُذكى وُقودُها

إِذا سَلِمَت نَفسُ الحَبيبِ تَشابَهِت

صُروفُ اللَيالي سَهلُها وَشَديدُها

فَلا تَجزَعي إِمّا رَأَيتِ قُيودَهُ

فَإِنَّ خَلاخيلَ الرِجالِ قُيودُها

تحدث رواد الأدب عن معاناتهم والظلم والألم وشكوا من ابتعاد الخلان والأصحاب عنهم، ويروي أبو إسحاق الموصلي بعد أن زُجَّ في غياهب السجن من قبل المهدي بسبب الشرب الذي أدمن عليه:

كثيرُ الأخلاء عند الرخاء

فلما حُبست آراهم قليلا

لطول بلائي مل الصديق 

فلا يأمنن خليلٌ خليلا

وكذلك يتحدث إبراهيم بن مهدي:

تحاماني الصديق وغاب عني

ثقات ضائع وهم حضور

الاستعطاف والاسترحام في سجون العصر العباسي

انتشر الاستعطاف داخل السجون في ذلك الزمن حيث توجه رواد الأدب لاستعطاف الحاكم بكل الطرق من تذلل وخضوع وانكسار ويستخدم المدح والفكاهة والاسترحام؛ من أجل التحرر والخروج من هذه الظلمة، تحدث أبو العتاهية الذي رفض طلب الرشيد بأن يلقي عليه الغزل وسجن لذلك ولكنه لم يحتمل هذا الوضع واستعطف الرشيد لكي يخرجه ويسمعه ما يريد فكتب:

من لعبد ألّه مولاه

ماله شافعٌ إليه سواه 

يشتكي ما به إليه ويخشا

ه ويرجوه مثل ما يخشاه

وفي النهاية نستنتج إن الأدباء تألَّموا كثيرًا في ظلمات السجون في العهد العباسي حيث عبروا عن خوفهم وألمهم وصبرهم عن طريق أدبهم فأنتجوا أروع المقطوعات في ذلك، ومن الشعراء الذين قضوا الليالي في غياهب السجون المتنبي وأبو العتاهية وغيرهم الكثير. 


شارك المقالة: