شعر المصابين في العصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


تميز أدب بني العباس في تلك الفترة وتطور بهمة رواده ومجموعة من العوامل التي دفعته إلى هذا النمو والازدهار، وكان من رواده في هذا الوقت مجموعة أطلق عليهم المصابين الذين تعتريهم علَّة ما كالجنون والحمق، وربما أطلق عليهم هذا المصطلح لأسباب حقيقية وأخرى لا صحة لها، لقد نظم هؤلاء المصابين أروع الكلام فيستهجن المتلقي هذه الصفة التي أُتهم بها، وفي هذا المقال سنتناول شعر المصابين في تلك الفترة ونذكر نماذج عليها وعلى أبرز روادها.

أبرز صفات الأدباء المصابين

1- الجنون: أُتهم عدد كبير من رواد الأدب بالجُنون والوسوسة، وأغلبها اتهامات لا تتصل بالمنطق، فهم شعراء أتقنوا وأبدعوا في إنتاجهم ولن يصدر عنهم مثل هذا العمل ومن غير الممكن أن يحمل هذه الصفات، لكن مرت عليهم ظروف قاسية جعلت الحكم عليهم شديد واتصف أغلبهم بالنقاء والزهد ومثال عليهم ماني الموسوس وبهلول.

كان النَّبذ والاتهام بالجنون عامل من العوامل التي دفعتهم إلى الوسوسة والإصابة التي يعانون منها تعود للظروف الصارمة التي عاشها والحياة المعقدة من حوله.

2- الحمق: هي ظاهرة انتشرت مع تطور المجتمع وانتقاله من الحالة البسيطة إلى المعقدة والتطور الكبير الذي حلَّ في البلاد في ذاك الوقت، والانتقال من حياة البادية إلى المدينة ومن الترحال الدائم إلى الاستقرار ولقد أطلقت هذه الصفة على الموالي والمشردين، وصدرت هذه الصفة من رغبة ملحة إلى التحرر الفردي من القيم المنتشرة في تلك الفترة، وقال العلماء عن الحمق:

” إن الحُمق أنواع: فمنها ما كان مجبولًا في الطباع، مولودًا ولادة الشخص لا يكاد يفارقه أو ينزاح عنه، ومنه ما يعتري الفرد لعلة من العلل فتنتابُه الغفلة في فترات متقاربة أو متباينة ويركبه البله بعد صفاء ذهن ركوبًا متصلاً أو متقطعًا حسب الأحوال أو تبعيًا للأشخاص، ومنه ما يلم بالإنسان من حوادث طارِئات وتخرجه من طور المألوف وحالته المعهودة.” ولقد أنشد أحد الحكماء بذلك:

اتقِ الأحمق أَن تصحبه

إِنَّما الأَحمق كالثوب الخلق

كُلما رقعت منه جانباً

خرقته الريح وهناً فانخَرق

أَو كصدع في زجاج فاحش

هَل ترى صدع زجاج يرتزق 

أَفسد المجلس منه بالخرق

كحمار السوق  إِن أَقضمته

رمح الناس وإن جاع نهق

3- الوسوسة: توجه عدد من العلماء إلى فهم هذه الازدواجية في السلوك وأقروا بأن الشعراء يخلطون في الحديث لا في الكلام المنظوم، واقتربوا من الإصابة عندما تعاملوا مع الحمقى والمكدين وقيل أن أهل الأدب توجهوا إليهم بهدف التكسب، فنرى مثلاً أبو العير وهو من البشر الأدباء وأعقلِهم قد توجه للوسوسة والحمق عندما رأى ما يجنيه الأحمق من مبالغ تفوق ما يجنيه الشاعر العادي.

اعتناء القدامى والمعاصرين بالمصابين وشعرهم

لم يكن النظم والتأليف في السابق اعتباطيًا إنما كان اختيار المواضيع والكتابة لها غايات معينة، وقد اعتنى القدماء بسمات هؤلاء الشعراء وتوضيح الصفات التي تحلَّوا بها، وقاموا ببيان كل صفة.

وتوجهوا إلى نظم المؤلفات التي تناولت صفاتِهم وسميت هذه المؤلفات بذلك لأنهم اتصفوا بالحكمة أو الحمق ومن ونذكر منها “كتاب عقلاء المجانين” ومن العلماء المهتمين بالحمقى نذكر جمال الدين الجوزي الذي ألف ” أخبار الحمقى والمغفلين” وكان يهدف من وراء هذا المؤلف هو شكر الله، والإظهار للعقلاء ما لديهم من نعمة وأهميتها عندما يسمعون أخبار الفاقدين لها، وكان يهدف أيضًا إلى توضيح أسباب الحمق ليتجنبها العاقل.

وتنبه المعاصرين إلى اختفاء هذه الفئة واندثار أشعارهم وكانوا على يقين بأنهم مجموعة لا يمكن الإغفال عنهم أو إهمالهم لأهمية أدبهم، فهم مثَّلوا عصرهم وزمنهم خير تمثيل ويعتبر أدبهم تراث مشرقي يجب المحافظة عليه، ومن العلماء المعاصرين الذين اهتموا بهذا الأمر إبراهيم النجار الذي أطلق عليهم مسمى “الشعراء المغمورون” والتي تناثرت آدابهم في بطون الكتب وخزائن المخطوطات، فكان لا بد من جمعها وضمها في مؤلفات، ومثال على ذلك جمعه عادل العامل لكل ما نظمه ماني الموسوس.     

مواضيع الشعر في شعر المصابين

1- المدح: نظم المصابين العديد من المقطوعات في هذا الغرض التقليدي حالهم كحال باقي الشعراء، فتوجهوا إلى مدح الخلفاء وخطوا بأقلامهم مثالية الحاكم، مثل وصف هارون الرشيد بالقيم العليا مثال عليه قول ماني الموسوس:

لحظات طرفك في العدى 

تُغنيك على سل السيوف

وغيوم رأيك في النهى

يكفيك عاقبة الصروف

وسيول كفك بالندى

بحر يفيض على الضعيف

وضياء وجهك في الدجى

أبهى من البدر المنيف

وأيضًا ما نظمه جعيفران الموسوس بالثناء على أبا دلف العجلي الذي وصف بالكرم ويدعو الله أن يحفظه ويصونه من مصائب الزمان ويقول في ذلك:

يا مُعدي الجود على الأموال

ويا كريم النفس في الفعال

قد صنتني عن ذلة السؤال

بجودك الموفى على الآمال

صانك ذو العزة والجلال

من غير الأيام والليالي

2- الرثاء: يعد المواضيع التي تستمد من الواقع والظروف بالشاعر ويتضح في الرثاء العواطف والانفعالات الصادقة فهم ينطقون بأشعارهم في وضع نفسي حزين، مما يدفعهم للإجادة يلامس بكلامه القلوب ويكون له تأثير بالغ في النفس، ومثال على ذلك ما أنشده سعدون المجنون:

ما حالَ مَن سَكَنَ الثَرى ما حالُهُ

أَمسى وَقَد قُطِعَت هُناكَ حِبالُهُ

أَمسى وَلا رَوحُ الحَياةِ تُصيبُهُ

يَوماً وَلا لُطفُ الحَبيبِ يَنالُهُ

أَمسى وَحيداً موحِشاً مُتَفَرِّداً

مُتَشَتِّتاً بَعدَ الجَميعِ عِيالُهُ

أَمسى وَقَد دَرَسَت مَحاسِنُ وَجهِهِ

وَتَفَرَّقَت في قَبرِهِ أَوصالُهُ

وهنا أبو الشيص الخزاعي قد توجه إلى رثاء شاعر آخر فوجب عليه انتقاء المفردات والمعاني لوصف حاله على هذا الشاعر وخصوصًا أنه من أعلام الأدب فنراه يرثي أبو تمام:

أصبح في ضنك من الأرض

أكثر في الأرض من الأرض

من عرض ذكراه ومن طولها

كالأرض ذات الطول والعرض

أكرم بملحود يداني الى

وجهك يا ابن الكرم المحض

ما في حبيب لي ابن أوس أسىً

يجمع بين الجفن والغمض

3- الفخر: هو ثناء النفس وذكر سمات المدح حيث تناولوا في الفخر ما يقال في المدح، وربما يتوجه الأديب إلى التفاخر بنفسه لفضيلة يفعلها ويريد أن تكون مثالاً يُحتذى، ويقول مجنون يفخر بنفسه:

وما اشتريت بمال قط مكرمة

إلا تيقنت أني غير مغبون

ونرى آسية النيسابورية تفتخر بصمتها الطويل الذي ينم عن حكمة وذلك عندما دعاها عبدالله بن طاهر ولزمن الصمت خمس أيام، واستغرب منها وسألها إن كانت خرساء فردت عليه:

قالوا: نراك طويل الصمت: قلت لهم

ما طول صمتي من عيّ ومن خرس

افتخر ماني الموسوس بنفسه وقدرته على الوصف الذي انفرد به وأنشد:

هل أنا ذا يسقطني للبلى 

عن فرشي أنفاسي عوادي

وفي النهاية نستنتج إن الأدب العباسي قد تطور وظهر فئة من رواده أُطلق عليهم المصابين الذين أثروا التراث الأدبي بمقطوعاتِهم وتميزوا بأدبهم، ونرى من الشعراء العقلاء قد اتصفوا بسمات المصابين بغرض التكسب لأن المصاب كان يجني الكثير أمثال ماني الموسوس وأيضًا جعيفران وغيرهم.


شارك المقالة: