شعر وصف الطبيعة في العصر الأندلسي

اقرأ في هذا المقال


لقد تطور الشعر العصر الأندلسي، ويعود سبب ذلك التطور إلى العديد من العوامل منها عوامل اجتماعية، ومنها عوامل سياسية وعوامل بيئية، وكان لطبيعة البيئة الأندلسية الساحرة والتضاريس المتعددة أثر واضح في شعر شعراء الأندلس، واهتم الشعراء بالطبيعة لجمالها ومناخها المعتدل وتوافر المياه بشكل غزير، وخصوبة أرضها.

نشأة شعر الطبيعة

منذ خلق الإنسان وهو مغرم بالطّبيعة وأخذ يتأملّها من حوله، ويتطلّع محاسنها، ومواطن الجمال فيها بكلِّ ما فيها، وهام بحبٍ لبديع خلقها وجمال روضها ورونق سمائها، فقد كانت وحيًا استلهم منه الشّعراء والكتّاب ووجد فيها الشّاعر والكاتب منذ القديم مرتعًا لخياله، وملجًأ لأفكاره، بما فيها من ورود، وجنان، وطيور، وانسياب الأنهار، ورائحة البساتين الجميلة، والهواء العليل.

وكان أغلب شعراء الجاهليّة يقومون بتصوير الطّبيعة بقسميّها الحي والصّامت، بما في ذلك من وصفٍ للظعن والخيل والأطلال، ولقد كان شعر الطّبيعة عندهم عبارة عن تعبير عن البيئة البدويّة الّتي كانوا يعيشونها؛ فتحدثوا عنها بكل بساطةٍ وصدق، ولمّا تغيرت أحوال العرب من البداوة إلى الحضرية وقاموا بالتعرف على رفاهيات الحياة، وغنى ورغد القصور وجمال الجنان، نما شعر الطبيعة خصوصاً في عصر الازدهار في الأندلس.

شعر الطبيعة في الأندلس

هو الشّعر الّذي يتناول البيئة وبعض مكوناتها في أجواء طبيعية ويزيدها جمالًا خيالُ الشّاعر، والتي تتجلى فيه مشاعر الشاعر وأحاسيسه المرهفة واستغراقه بجمالها، وكلّما كان شعر الطّبيعة يتم تناوله بهذه المشاركة وهذا الاستغراق ومصورًا جمال الطّبيعة الحيّ والصامت وجمالها في جميع مظاهرها، كان الشّعر متطورًا ويشمل كافة أغراضه وموضوعاته.

ولقد ميّز الله الأندلس بطبيعةً خلابةً فكانت من أجمل أماكن المسلمين منظرًا وأكثرها جمالًا؛ إذ تتميّز الأندلس بطبيعةٍ جميلة فهي تقع في موقعٍ جغرافيًا وطبيعيًا متميز، فهي تمتد بين الجبال والبحار والوديان في أبهى ما تكون الأفاق، وأخصب ما تكون البقاع.

وتتمتّعُ الأندلسُ بطبيعتها الخلابة بما فيها من سهول ووديان وأنهار وبرك وجبال وغابات وأشجار وورود وطيور وبساتين وحدائق غنّاء، وهنالك السّدود والنوافير إضافةً إلى قصورها ومبانيها الجميلة، وهذا ما خطف عقول الشّعراء وجعلهم يتغنون بجمالها.

وأما عن ابن سهل الإشبيليّ كان يتغنى في شعر الطّبيعة ويقوم بتصوير أرضها وهي ترتدي ثوبها الأخضر، وقطرات  المطر الخفيفة التي تتساقط وكأنها حبات من اللؤلؤ قد تناثرت على الرُّبا، وتميز في وصف رائحة الورود وشبهها بالكافور وأصبح التراب كرائحة المسك، وتميز حينما وصف السّوسن مصافحًا الزهور كأنه ثغر يقبّل خدها، وظهر روعة الصّورة الفنّيّة للنهر الممتد كالسّيف في هذا البستان الأخضر البديع.

الأَرضُ قَد لَبِسَت رِداءً أَخضَرا

وَالطَلُّ يَنثُرُ في رُباها جَوهَرا

هاجَت فَخِلتُ الزَهرَ كافوراً بِها

وَحَسِبتُ فيها التُربَ مِسكاً أَذفَرا

وَكَأَنَّ سَوسَنَها يُصافِحُ وَردَها

ثَغرٌ يُقَبِّلُ مِنهُ خَدّاً أَحمَرا

وَالنَهرُ ما بَينَ الرِياضِ تَخالُهُ

سَيفاً تَعَلَّقَ في نِجادٍ أَخضَرا

ولقد تعمق الشّعراء الأندلسيّون في توظيف الوصف بشكل كبير فتميزوا بذلك، وكتبوا أجملَ الأشعار في وصف البيئة الأندلسية، وكانوا يوظفونها لتعبير عن مشاعرهم وعواطفهم، ووصف بعضهم الطبيعة بأسلوب العاشق المتيم، وجعلها بعضهم إطارًا للهموم تتوافق مع سحرها، وكان الأندلسي متيم بحب الطّبيعة.

فهو يتناولها في حديثة، وينسجم معها بحيث يتعانق الورد والياسمين، وتجري المياه على ربوعها الخضراء، وتنتشر الأطيار في سمائه سحرًا وجمالًا، فالشّاعر الأندلسيّ شديد التعلق بالطبيعة وهو شديد الارتباط بها، وهي في زحمة الموضوعات مركزًا للالتفات.

اتصال شعر الطبيعة بالأغراض الشعرية في الأندلس

لقد كان شعر الطّبيعة عند شعراء الأندلس مرتبط بكافة الأنواع الشعريّة، وأكثر الحديث انتشاراً كان بسبب نمو الحياة الحضرية والبيئة التي تحيط به وهذه الأنواع هي كما يلي:

الوصف والتشخيص

ومنه شعر الزهريات، وهو مُتفرّد بوصف الأزهار والورود، والجنان لوصف الجنان والبساتين، وقد تطور بهم الأمر إلى الغنى الوصفي في التشخيص أن جعلوا بين الأزهار والورود مناظراتٍ شعرية، وحوارات والجدال تزخم بالبلاغة المركبةِ والمترفة، والموسيقى الخلابة، قال ابن حصن:

كلما أقبل الظلام عليهِ

غمضت أنجم السّما عينيهِ

فإذا عاد للصباح ضياءٌ

عاد روح الحياةِ منهُ إليهِ

وقال ابن هانئ الأندلسي يصف أيام الربيع:

ألُؤلُؤٌ دَمْعُ هذا الغيْثِ أم نُقَطُ

ما كان أحْسنَنَهُ لو كان يُلتَقَطُ

أهْدى الرّبيعُ إلينا روضةً أُنُفاً

كما تَنَفّسَ عن كافورهِ السَّفَط

غمائمٌ في نواحي الجوِّ عاكفَةٌ

جَعْدٌ تَحَدَّرَ منها وابلٌ سَبِط

كأنّ تَهْتانَها في كُلِّ نَاحِيَةٍ

مَدٌّ من البحرِ يعلو ثم ينهبط

ارتباط المرأة بالطبيعة

من خلال وصف الورود، والأشجار وتشبيها بالمرأة وجمالها؛ وذلك لأن المرأة لها علاقة قوية بكلّ مظاهر الجمال، قال جعفر ابن محمد المصحفي يصف سفرجلة:

ومصفرّةٍ تختال في ثوب نرجسٍ

وتعبق عن مسك ذكيِّ التنفس

لها ريحُ محبوب وقوة قلبه

ولون محبٍّ حلّة السّقم مكتسي

ارتباط الخمر بالطبيعة

إذ معالم اللهو والخمر قد بدأت تظهر بعد أن انتقلوا إلى حياة الحضر وعاشوا في القصور؛ وانتشرت مجالس اللهو والغناء والخمرة، وتعلق وصف الخمر بمظاهر الطّبيعة من حولهم، قال ابن عمّار أبيات في الخمر والطبيعة:

أدرِ الزّجاجة فالنسيم قد انبرى

والنّجم قد صرف العنان عن السّرى

والصّبح قد أهدى لنا كافوره

لما استرد اللّيل منا العنبرا

والرّوض كالحسن كساه زهره

وشيًا وقلّده نداء الجوهرا

خصائص شعر الطبيعة في الأندلس

يتميز شعر الطبيعة الأندلسي بالخصائص الآتية:

1- يستخدم التشخيص، وذلك بإبراز الطبيعة في صور شخوص حيّة وبثّ الحياة فيها، كابن سفر الماريني عندما صور الزهر يبتسم من الفرح، وأغصان الأشجار تسمع غناء الطيور

2- يبتعد الشاعر عن توظيف الألفاظ الغريبة، ويكثر من المعاني السهلة الواضحة التي يستمدها من الطبيعة الأندلسية.

3- يتميز الشعر بدقة التصوير وجماله، كما في وصف زهر البهار لابن النظام الأندلسي، ووصف نافورة الأسود لابن حمديس الصقلي.

أبرز شعراء الطبيعة في الأندلس

ابن خفاجة

وهو أبو إسحق إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد الله بن خفاجة ولد سنة أربعمئة وخمسين للهجرة، وقد أصرّ على العلم والتّزود بالآداب العربيّة، وتفتّحت مواهبه الشعريّة؛ إذ كان متأثر بأشعار عبد المحسن الصّوري، وقال في مدح الحسن بن الربيع صاحب قرطبة، وقد اتخذ من الطبيعة طريق لغرض مدح الممدوح:

وَغَمامَةٍ نَشَرَت جَناحَ حَمامَةٍ

وَالبَرقُ قَد نَسَجَ الظَلامَ نَهارا

مُتَأَلِّقٌ صَدعَ الدُجى وَسَقى الثَرى

فَاِبيَضَّ ذا نوراً وَذا أَنوارا

في أَجرُعٍ خَلفَ الرَبيعُ بِهِ اِبنَهُ

كَرَماً فَأَخصَبَ رَبوَةً وَقَرارا

هَفَتِ الصَبا مِنهُ بِمَسرى ديمَةٍ

هَطلاءَ قَرَّ بِها العَجاجُ وَقارا

ابن الزقاق

أبو الحسن بن عطيّة المشهور بابن الزّقاق البلنسي، كانت زوجته أخت الشاعر أبي إسحق ابن خفاجة، وكان متأثرًا بشعره، طلب العلم في بلنسية، تفوق في الوصف والغزل، وقال يصف المطر وهو يتساقط على زهر الرّياض:

ورياضٍ منَ الشقائقِ أضْحَتْ

يتهادَى فيها نسيمُ الرياحِ

زرتُها والغمامُ يجلدُ منها

زَهَراتٍ تروقُ لون الراحِ

قلتُ ما ذنبُها فقال مجيباً

سَرَقَتْ حُمْرَةَ الخدودِ الملاح

الرصافي البلنسي

أبو عبد الله محمد بن غالب الرّصافي البلنسيّ، ولد وترعرع في رصافة بلنسيّة، ثمّ انتقل إلى غرناطة، وأكثر شعره في وصف الطبيعة.

وقد قال في مدح أبو جعفر الوقشي، وقد اتخذ من الطّبيعة منطلقًا له في غرض المدح:

رَجُلٌ إِذا عَرَضَ الرِجالُ لَهُ

كَثُرَ العَديدُ وَأَعوَزَ النِدُّ

مِن مَعشَرٍ نَجَمَ العَلاءُ بِهِم

زَهَراً كَما يَتَناسَقُ العِقدُ

لَبِسوا الوزارَةَ مُعلَمينَ بِها

وَمَعَ الصَنائِفِ يَحسُنُ البُردُ

وفي النهاية نستنج أن شعراء الأندلس اهتموا كثيرًا وتغنوا بجمالها، فكان الناتج الشعري في هذا السياق غزيرًا رقيقًا، وبرزت مظاهر لشعر وصف الطبيعة في الأندلس، كما برزت خصائص تميزه عن باقي الأغراض، وتميز في هذا الشعر العديد من شعراء الأندلس.


شارك المقالة: