شعر وصف القصور في العصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


تعد الفترة العباسية هي الفترة الذهبية للأدب حيث أن التحديثات التي جرت في تلك الفترة كان لها دور في تنمية الأدب بجميع أشكاله وخاصة الكلام المنظوم منه، وبرزت أنواع حديثة ومتطورة ومنها الوصف وكان دور ولاة الأمر واضح في تطور الأدب، حيث عملوا على تشجيع رواد الأدب في قصورهم مما أثر في ملكة الشعر لديهم ودفعهم ذلك الى وصف تلك القصور.

الحضارة في العصر العباسي

تميزت الفترة العباسية بالحضارة المعمارية والأدبية والعلمية وفي هذه الفترة برزت أهم العلوم وخصوصًا الناتجة من الاختلاط مع عجم، وكانت قصور ولاة الأمر في تلك الفترة تعج بالأدباء ورواد الشعر وبذلك نستطيع القول أن تلك الفترة هي فترة النهضة الثقافية والفكرية، كما كانت بداية النهضة الصناعية والتجارية وغيرها من الأمور.

وكان الاختلاط بالعجم في تلك الفترة دور كبير في هذه النهضة، حيث استعملهم ولاة الأمر في كل الأمور سواء أكانت بسيطة مثل سقاية الماء أو ذات شأن مثل الوزارة.

وإن النهضة العباسية التي تطورت وعمت البلاد كانت نتيجة لتبادل الأفكار والعلوم والثقافات بين أهل المشرق والعجم من الفرس والبربر وغيرهم، ولتبادل الأثر في إثراء الحضارة العربية والتواصل مع الشعوب الأخرى.

والثقافات تشبه السلع المتداولة بين الأمم تنتقل وتتوزع بينهم، وفي تلك الفترة كانت أسواق بغداد تعج بالمصانع والسلع، وكان الأثرياء يشيدون القصور الفارهة التي تدل على الرفاهية والترف الذي كانوا يعيشون فيه في تلك الفترة وهذا الترف أدى إلى فك القيود والعادات القديمة في ذلك الوقت.

فنرى المجتمع العباسي يغرق بمظاهر الحياة الحديثة وتنعموا بالأمن والاستقرار، وكل هذا أثرى الحركة الأدبية وكان له دور في تطورها.

ونرى أثر ذلك في الشعر الذي واكب كافة المجريات فنراه يغطي كل تلك المظاهر ويتناولها بأجمل الصور والتعابير، وبرزت صور جديدة في مواضيع الشعر المشرقي مثل الوصف فكان يتكلم عن الواقع ويصفه بطريقة مفصلة حتى أصبح كموسوعة تاريخية تحمل أخبار تلك الفترة.

عوامل ازدهار التطور الحضاري وأسبابه في العصر العباسي

1- كثرة الأموال والرفاهية والترف: وبرزت حياة الرفاهية واضحة في تلك الفترة من خلال قصورهم الفارهة، وكانت الثروات تملأ تلك القصور وكان ولاة الأمر يمنحون الأموال على جميع الشعب، وخصوصًا أهل العلم ورواد الشعر الذي كان لهم النصيب الأكبر من عطاء ولاة الأمر.

2- الأثر الأعجمي: عجت الدولة في تلك الفترة بالكثير من غير العرب، فكان يتواجد فيها الفرس والبربر وغيرهم من العناصر الدخيلة التي اندمجت مع الأصول المشرقية، ونراهم يتولون المراكز المهمة في السلطة والمدن، كما كان لهم مكانه خاصة في قصور ولاة الأمر أيضًا.

3- المجالس الأدبية: استقطب ولاة الأمر من بني العباس والأدباء والعلماء وقاموا بتأسيس أماكن لتلاقي وتبادل العلوم والثقافات والمناقشة.

4- تشجيع الخلفاء وولاة الأمر: كان للخلفاء دور بارز في دعم حركة التطور الفكري في تلك الفترة، واستقطبوا العلماء ورواد الشعر إلى مجالسهم وحثهم على الإنتاج وأجزلوا لهم العطايا تشجيعًا لهم.

وصف القصور في العصر العباسي

كان لتطور والازدهار الذي عاشت فيه الدولة في ذلك الوقت أثر في إثراء مواضيع الكلام المنظوم، فانعكس الثراء والرفاهية على ملكات رواد الشعر الذي أهملوا الوقوف على الدمن ووصف الصحراء، وانشغلوا بوصْف القصور الفارِهة المزخرفة بأروع الزخارف التي تدل على الحضارة والتطور في تلك الفترة.

فنرى رواد الكلام المنظوم في تلك الفترة يتوجهون إلى وصف القصور أمثال أبو نواس والبحتري وغيرهم الكثير، وهناك من رسم في شعره أروع الوصوف العمرانية مثل أبي السمط وعلي بن المنجم والنمري وغيرهم، وكانت مقطوعاتِهم تعج بوصْف التقدم العمراني ووصف القصور، ومثال على ذلك وصف النميري لقصور مدينة بغداد حيث يقول:

سقيًا لتلك القصور الشاهقات وما

بها من البعد الإنسية العين

مناظر ذات أبواب مفتحة

أنيقة بزخاريف وتزيين

فيها القصور التي تهوي بأجنحة

بالزائرين إلى القوم المذودين

وكذلك نرى إبراهيم الصولي يرسم لنا بريشته أجمل الوصوف لقصر العروس المتوكل حيث يقول:

تَــأَمَّل سَــمــاءً أَظـلّت عَـلَي
كَ فـيـهـا مَـصـابـيحُها تَزهر
وَأَرض نُــقــابِـلُهـا بِـالعَـرو
سِ وَالبُــرج شَـمـسُهـا جَـعـفَـر
وَمَـسـحَـبُ نـورٍ غـداة الرَّبـي
عِ أَنـفـاسُه المسك وَالعَنبَر
خِـــلالَ شَـــقـــائِقِه أَصـــفَــرٌ
وَأَضــعــاف أَصــفــرِه أَحــمَــر
وَلِلمـــاءِ مُـــطَّرَدٌ بـــيـــنــه
يَــضــيــقُ بِــآذيِّهــ المَـصـدَر
وَلِلنــاطِــقــاتِ بِــأَكــنــافِه
دَواعـي اِشـتِـيـاق وَمُـسـتَعبَر

ونرى من خلال هذه الأبيات أن التقدم العمراني قد أثرى الكلام المنظوم في الوصف وأغراضه، فنرى رواد الشعر يصفون مشاهد الترف والقصور وما تحتويه من مواطن تسحر الأفئدة وتذهب العقول بجمالها، ونرى الوصف قد وصل إلى ثراء المعالم العمرانية دون ذكر أصحابها ومثال على ذلك قول الخزيمي:

دَرّتُ خــلوفُ الدنــيــا لِســاكِــنـهـا
وَقَـــلَّ مـــعـــســـورهــا وَعــاســرهــا
واِنــفـرجـت بـالنَـعـيـم واِنـتَـجـعـت
فــيــهــا بِــلَذَّاتــهــا حــواضــرهــا
فــالقَــومُ مــنــهـا فـي روضـة أُنـفٍ
أَشـــرق غِـــبَّ القِـــطـــار زاهــرُهــا
مــن غَــرَّهُ العَــيــش فــي بُـلَهـنـيـةٍ
لَو أَنَّ دنـــيـــا يَــدوم عــامــرهــا
دارُ مُــــلوك رســــت قــــواعـــدهـــا
فــيــهــا وَقَــرَّت بِهــا مَــنــابـرهـا
أَهــل العُـلا وَالنَـدى وَأَنـدِيَـة ال

فـــخـــر إِذا عـــددت مَـــفــاخِــرهــا

وقوله في ذلك أيضًا:

إذ هي مثل العروس باطنها 
مشوقٌ للفتى وظاهرها 
وهل رأيت القصور شارعةً

تكن مثل الدمى مقاصرها

أهم الشعراء الذين وصفوا القصور في العصر العباسي

1- البحتري: أبدع البحتري باستخدام ريشتُه ورسم أجمل الوصف للقُصور في عصر على الرغم من نشأته في بيئة بدوية، إلا أنه استطاع من خلال أبياته أن يصور مظاهر الحضارة وخاصة في القصور، تميز البحتري بوصفه الرائع والدقيق للقُصور ومثال على ذلك وصفه لقصر الزو حيث يقول:

أَبى يَومُنا بِالزَوِّ إِلّا تَحَسُّناً

لَنا بِسَماعٍ طَيِّبٍ وَمُدامِ

غَنينا عَلى قَصرٍ يَسيرُ بِفِتيَةٍ

قُعودٍ عَلى أَرجائِهِ وَقِيامِ

تَظَلُّ البُزاةُ البيضُ تَخطِفُ حَولَنا

جَآجِئَ طَيرٍ في السَماءِ سَوامِ

تَحَدَّرَ بِالدُرّاجِ مِن كُلِّ شاهِقِ

مُخَضَّبَةٌ أَظفارُهُنَّ دَوامِ

فَلَم أَرَ كَالقاطولِ يَحمِلُ ماؤُهُ

تَدَفُّقَ بَحرٍ بِالسَماحَةِ طامِ

2- علي بن الجهم: تميز بن الجهم أيضًا في وصف القصور في تلك الفترة، وكان مشهودًا له بفصاحته، وكان من المقربين لدى المتوكل، ومثال على شعره في وصف القصور ما قاله في قصر الهاروني:

ما زلت أسمع أن الملوك

تبني على قدر أخطارها

الروم ما شاده الأولون

وللفرس مأثور أحرارها

فلما رأينا الخلافة في دارها

بدائح لم ترها فارس

ولا الروم في طول أعمارها 

صحون تسافر فيها العيون 

وتحسير عن أبعد أقطارها

وقبة ملك كأن النجوم 

تفضي إليها بأسرارها

3- عبدالله بن المعتز: عاش في رفاهية ونعيم وترعرع في القصور، ورأى الحياة أول مرة في قصر جده المتوكل، وكان مهتمًا في وصف مظاهر الجمال من حوله وقام بوصف القصور، مثال على ذلك وصفه لقصر بسطام:

سَلامٌ عَلى غَيرِ الدِيارِ البَسابِسِ

وَدِمنَةِ رَبعٍ قَد تَغَيَّرَ دارِسِ

وَهَبتُ سَلامي ما حَيَيتُ لَمَجلِسٍ

عَلى قَصرِ بِسطامٍ أَميرِ المَجالِسِ

مُطِلٍّ عَلى رَوضٍ أَنيقٍ كَأَنَّهُ

مَقادِمُ خُضرٌ فَوقَ فُرشِ عَرائِسِ

وَكَم فيهِ مِن قُمريِّ عودٍ مُغَرَّدٍ

وَمِن كارِعٍ في كَأسِهِ غَيرَ حابِسِ

وَكَم فيهِ مِن حَيٍّ مَليحٍ مُراسِلٍ

بِعَينَيهِ فيما شِئتَ غَيرَ مُماكِسِ

جَريءٍ عَلى رُقّابِهِ وَغُيورِه

ضَحوكٍ إِلى أَحبابِهِ غَيرَ عابِسِ

وفي النهاية نستنتج أن رواد الشعر العباسي قد تأثروا أشكال الحضارة التي نمت في تلك الفترة وقاموا على وصف كل تلك لأشكال، ومن أهمها التطور العمراني وخاصة في أنشاء القصور فتنَاولوا وصف مواطن الجمال في تلك القصور وأبدعوا بريشتهم أجمل اللوحات.


شارك المقالة: