انهارت الدولة الأموية في الأندلس في القرن الخامس، أدى هذا الانهيار والسقوط إلى تجزئة الأندلس إلى إمارات وطوائف تتنازع فيما بينها، وأدى هذا النزاع إلى التقرب من الممالك الإسبانية، وطلب العون منها وقاموا على تقديم الولاء والطاعة لهذه الممالك، ونتيجة لكل هذه الصراعات والنزاعات قد تركت أثر في نفوس أهل الشعر حيث تفاعلوا مع هذه المجريات وبكوا على ما آلت إليه بلادهم.
صورة المعالم الإسلامية في المدن المحتلة
دخل المسلمون بلاد الأندلس في صراع مع أهل الأندلس الأصليين ودافعوا جاهدين للحفاظ على إسلامية الأندلس، والذي يتأمل هذه الصراعات يدرك أنها ليست صراعات سياسية أو اقتصادية إنما هي صراعات دينية.
وقد لوحظ في تلك الفترة من الصراعات كيف أنه يتم تغيير المعالم الدينية في المدن التي تسقط بيد الأعداء، حيث يقوموا بتبديل المساجد إلى كنائس، والآذان إلى رنين الأجراس، وأدى كل هذا إلى إثارات حمية الشعراء، ألهبت قرائحهم، فجادوا في رسم الدول المنهارة وما آلت إليه من بعد السقوط.
ومن هؤلاء الشعراء الشاعر الرندي الذي عبر عن أسفه وحزنه الشديد لما حاق بالمعالم الدينية التي في مدينته رندة عندما سقطت بيد الإسبان حيث يقول:
تبكي الحنيفيَّة البيضاء من أسفٍ
كما بكى لفراق الإلف
على الديار من الإسلام خاليةٍ
قد افقرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما
فيهن إلا نواقيس وصُلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدةٌ
حتى المنابر ترثي وهي عيدانُ
ولجأ الشاعر الأندلسي في تجربته الشعرية إلى استخدام لغة بسيطة، ودلالات معبرة رسم فيها الكثير من الصور الفنية للشواهد الإسلامية حين بكت وتحسرت على شبابها وأيامها الزاهية، كذلك صور للمحاريب التي تبكي بحرقة على مصليها الذين تركوها، والمنابر التي تبحث عن خطبائها دون جدوى.
كل هذه المشاهد والصور للمدينة المحتلة التي انتهكت حرماته الإسلامية توقظ المشاعر وتقود إلى العمل الدؤوب من أجل استرجاع هذه المعالم، ولقد ساعدت هذه الصور الاستعمارية التي تعج بالحركة والحياة على إثراء وغنى المغزى المراد وألبسته لونًا إنسانيًا حزينًا، حيث أنها مُستَمدة من الواقع الأليم الذي طغى على المدن الأندلسية المحتلة، وظهر في هذه الصور الامتزاج بين صدق الشعور والصدق الفني، وقدرة العاطفة الدينية هائلة وكبيرة فهي قادرة على هز وجدان المسلم حسرة وآسف، وتجعله يبكي ألمًا.
الشاعر بهذا الوصف لنكبة الإسلام في الأندلس يجعل المصيبة شاملة بالمجتمع الأندلسي كافة لا خاصة، وها نحن نرى ابن الأبار يرسم صورًا ومشاهد معالم الإسلام في المدن المحتلة وما حلَّ بها من خراب وتشوية على يد المعتديين حيث يقول:
يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا
للنائبات وأمسى جَدها تعسا
في كل شارقة إلمامُ بائقةٍ
يعود مأتمها عند العدى عُرُسا
مدائنٌ حلها الإشراك مبتسمًا
جدلان وارتحل الإيمان مبتئسًا
يا للمساجد عادت للعدى بيعا
وللنداء غدا اثناءها جَرَسَا
لهفي عليها إلى استرجاع فانتها
مَدارسًا للمثاني أصبحت دُرُسا
قد ساعد أسلوب المقابلة في رسم تجربة الشاعر الشعورية، حيث عمد الشاعر إلى حشد النص بصور متعددة من المقابلة، حيث يقابل بين دخول الشرك ورحيل الإيمان، ويقابل بين ما حلَّ في أهل الإيمان من انكسار وحزن وبين ما حلَّ بالأعداء من فرح وسرور، ويتحدث عن مأتم الإسلام وعرس الكفار، ويصور ما حلَّ بالمساجد بعد أن تحولت إلى كنائس وأصبح يسمع فيها قرع الأجراس التي حلت مكان الآذان.
نرى ابن الأبار يصور المآسي والحزن لما حلَّ بمعالم الإسلام الحضارية من تشويه وتغيير حيث تحولت المساجد التي تعج بمجالس العلم إلى خراب حيث يقول:
بأبي مدارس كالطول دوارسٌ
نسخة نواقيس الصليب نداءها
ومصانع كيف الضلالُ صباحها
فيخاله الرائي إليه مساءها
ونرى ابن سهل يصور لنا بأسلوبه الحَزِين المصيبة التي حلت بمدن الأندلس حيث يقول:
لم يبق للإسلام غير بقيةٍ
قد وطنت للحادث المتنكر
والكفر ممتد المطالع والهدى
متمسكٌ بذنابِ عيش أغبر
كم نكروا من مَعْلم كم دمروا
من معشر كم غيروا من معشر
كم أبطلوا سنن النبي وعطَّلوا
من حِلية التوحيد ذروةَ منبر
أما الشاعر بن فرقد عبر عن حزنه لما لحق بالإسلام في المدن الأندلسية من تدمير وخراب حيث يقول:
وكانت رباطًا لأهل التُّقى
فعادت مناطًا لأهل الوَثن
وكانت معاذًا لأهل التُقى
فعادت ملاذًا لمن لم يدن
وكانت شجى في حُلوق العِدى
فأضحى لهم ما لها مُحتجن
وبخصوص الشاعر ابن عميرة قام بالمقابلة بين صورة المدينة بلنسية في ظل الاحتلال وصورتها حين كانت جنة، ولقد استعان بعناصر من الطبيعة كي يظهر أطراف هذه المقابلة حيث يقول:
أما بلنسية فتوى كافر
حفت بها في عُقرها كفاره
زرعٌ من المكروه حلَّ حصادهُ
بيد العدو وغداة لجَّ حصاره
وعزيمة للشرك جعجع بالهدى
أنصارُها إذا خانه أنصاره
وفي مشهد آخر يرسمه لما الشاعر ابن الأبار مصورًا مشاهد التخريب والطغيان الذي حلَّ بمدينة بلنسية بعد دخول الوحوش المفترسة إليها حيث يقول:
سُرعان ما عاث جيش الكفر واحتربَا
عَيثَ الدَّبى في مغانيها التي كبسا
وابتزَّ بزَّتها مما تحيَّفها
تحيّف الأسد الضَّاري لما افترسا
محا محاسنها طاغ أتيح لها
ما نام عن هضمها حينًا وما نعسا
وفي النهاية نستنتج أن صورة المدينة الإسلامية المحتلة قد أثرت في نفس شعراء الأندلس، وألهمت أفكارهم لرسم الصور الحزينة المبكية للمدن الإسلامية المحتلة، وما حلَّ بها من تدمير وخراب وتغيير للملامح الإسلامية فيها.