ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت

اقرأ في هذا المقال


ما هي الأمثال الشعبية؟

لا يوجد انفصال بين أمثالنا الشعبية وواقعنا الذي نحياه، فالأمثال الشعبية ما هي إلا نتاج لخبرات الناس المتناقلة منذ سنين، وتلك الأمثال قد اتصلت بقصة وحكاية غريبة حدثت منذ أكثر من مئة سنة، وقد كان فعل الخير وصنع المعروف البطل فيها، وشاركه الوفاء كردّ للجميل.

قصة مثل ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرجت:

يُحكى أنه كان هناك رجل يُعرف بابن جدعان، خرج في الربيع، وقد شاهد ناقة يملكها يكاد الحليب يتفجر من ضرعها، وكانت حين يقترب منها صغيرها تدر له اللبن الغزير، فقد طرح الله بها البركة، وجعل فيها رزقًا وفيرًا، فتذكر الرجل جاره الفقير الذي يرعى بنياته السبع، وقرر أن يتصدق له بالناقة وولدها إعمالًا بقول الله عزوجل: ” لن تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ”.(آل عمران:92)

قام ابن جدعان بأخذ الناقة وابنها ودقّ باب جاره، وقام بإهدائه الناقة، فتهلل وجه الرجل وهو عاجز عن التعبير، وبقي يشرب من لبن الناقة، ويحتطب على ظهرها، وبقي منتظرًا صغيرها أن يكبر؛ ليقوم ببيعه، وجاءه من الناقة خيرٌ عظيم، ولما انتهى الربيع وحلّ الصيف بجفافه وقحطه، تشققت الأرض، وبدأ البدو يرتحلون بحثًا عن الماء والكلأ حتى وصلوا للدحول، والدحول هي حفر في الأرض توصل إلى آبار مائية لها فتحات فوق الأرض يعرفها البدو.

عندما دخل ابن جدعان الدحل، ضاع فيه ولم يخرج، إذ تاه عن باب المخرج، ولم يعرف له طريقًا، وكان له ثلاثة أبناء ينتظرونه في الخارج، أمضى الأبناء يومين وربما ثلاثة حتى يئسوا، وقالوا: لعل ثعبانًا لدغه ومات، وقد أتى هذا الأمر على هواهم؛ فقد كانوا ينتظرون موته طمعًا في تقسيم التركة والمال.

بالفعل عاد الأولاد الثلاثة إلى البيت وقاموا بقسمة التركة بينهم، وحينها قال أوسطهم لأخويه: هل تذكرون ناقة والدي التي وهبها لجارنا، إنه ليس جديرًا بها، فلنستردّها منه هي وابنها ونعطيه عوضًا عنها بعيرًا أجربًا، وبالفعل ذهبوا إلى الرجل الفقير وقرعوا عليه الباب، وطالبوه بالناقة، فقال لهم: إن أباكم قد وهبني إياها، أتعشى وأتغدى من لبنها، فقالوا له: أعد لنا الناقة خيرٌ لك، وإلا سنسحبها الآن عنوة، وإليك هذا الجمل بدلًا منها.

حينها قال الرجل الفقير الذي لا حول له ولا قوة: سأشكوكم إلى والدكم، قالوا: اشكُ قدر ما تشاء فإنه قد مات، فاستغرب الرجل كيف مات؟ ولمَ لم يسمع بموته؟ فقالوا: قد دخل دِحلاً في الصحراء، وتاه فيه ولم يخرج، فقال لهم: أريدكم أن تذهبوا بي إلى هذا الدحل وخذوا الناقة وافعلوا ما شئتم، ولا أريد منكم شيئًا، فلما ذهبوا به إلى موضع الدحل، ورأى المكان الذي دخل فيه صاحبه الكريم، ذهب وجاء بحبل وأشعل به شعلةً ثم ربطه خارج الدحل، ونزل يزحف على ظهره حتى وصل إلى مكان يشم به رائحة الرطوبة.

أثناء سير الرجل الفقير في الدحل إذا به يسمع أنينًا خافتًا، فزحف باتجاهه في العتمة، وهو يتلمس الأرض، ووقعت يده على طين ثم على الرجل، فوضع يده ليتحسسه، فإذا به حي يتنفس بعد أسبوع من الضياع، فقام وجره ثم أخرجه معه خارج الدحل، وأعطاه التمر، وسقاه حتى ارتوى، ثم إنه قام بحمله على ظهره، وجاء به إلى داره، ودبت الحياة في الرجل من جديد، وأولاده لا يعلمون عنه شيئًا، ولما استرد الرجل عافيته، قال له صاحبه الوفي: أخبرني بالله عليك كيف بقيت أسبوعًا تحت الأرض دون أن تموت؟!

قال الرجل لصديقه الوفي: سأخبرك بحديث عجيب، لما دخلت الدُحل وتشعبت بي السُبل، ولم أجد منه طريقًا للخروج، قلت في نفسي ألجأ إلى الماء الذي بلغته لعله يبقيني على قيد الحياة، وأخذت أشرب منه، ولكن الجوع لا يرحم، فالماء وحده لم يكن كافيًا، وبعد ثلاثة أيام حينما بلغ الجوع مني مبلغه، وبينما أنا نائم على ظهري أحسست بلبن دافئ يتدفق على لساني، فاعتدلت في جلستي فإذا بإناء في الظلام يقترب من فمي، فأرتوي منه ثم يذهب، وكان يأتيني في الظلام دون أن أراه ثلاثة مرات في اليوم، ولكن منذ يومين انقطع، ولا أدري لهذا سببًا.

قال الرجل الوفي لصديقه: لو علمت سبب انقطاعه لتعجبت، لقد حسب أولادك أنك مت، وجاؤوني فسحبوا الناقة التي كان يسقيك الله منها، فسبحان الذي أنقذ عبده المتصدق الذي فعل الخير، ولم ينتظر له جزاءًا ولا معروفًا، فقد فرج الله كربتك، وأخرجك من ظلمة الموت، ومن تلك القصة جاءت مقولة ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت، وكنت أظنها لا تفرج.

وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَها الفَتى ذَرعًا وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ.


شارك المقالة: