الشعر هو مرآة العالم ولوَّحة يرسمها الشعراء ليفصِحوا عن المشاعر التي تعتري الأشخاص فكان ملمًا لظاهرة الاغتراب التي ظهرت بأنواع وأشكال كثيرة بسبب عدة عوامل، وفي هذا المقال سنوضح ظاهرة الاغتراب في الفترة العباسية.
مفهوم الاغتراب
يعتبر الاغتراب من أكثر المعاني التصاقًا بالشخص ولقد استعمل بطرق متنوعة ومعاني كثيرة حتى أصبح يلفه الغموض، ولم يتفق العلماء على تحديد معناه ومنهم من قال أن معناه يدل على الغربة عن البلاد ومن ذلك ما جاء في كتاب ابن منظور:
” غربت الشمس تغرب غروبًا ومُغيرِبَانًا: غابت في المغرب، والغرب: الذهاب والتنحي عن الناس، وقد غرب عنا، يغرب غربًا، وغرّب وأغرب وغربه وأغربه: أي نحّاه، وَالغربة والغرب النّزوح عن الوطن والاغتراب، واغترب الرجل نكح في الغرائب وتزوج في غير أقاربه وأغرب الرّجل: جاء بشيء غريب، وأغرب عليه، وأغرب به وصنع به صنعًا قبيحًا.”
وتعريفه في المعاجم: ” اغتَرب الشخص أي نكِح من غير أقاربه والتغريب الاستقصاء عن الوطن، وأغرب أي أتى بأمر غريب، وأغرب أي أصبح غريبًا، وأسود غربِيب أي أنه حَالِك شديد السواد، ويقال أُغرُب عني: أي تنحى من أمامي.”
أما الاغتراب اصطلاحًا: نجد أن مصطلح الاغتراب لاقى اهتمام بارز من جهة فرق من العلماء، المتكونة من الفقهاء ورواد الشعر والعلماء المشرقيين والأجانب، حيث توجهوا إلى بيانه وتوضيحه وكان لكن منهم رأيه وكل واحد منهم يوضحه حسب نهجه وتفكيره.
فهنا نرى رجل دين يقول عنه أن البشر في هذه الأرض كلهم مغتربين والحياة ليست دار مقام وإنما خلقوا فيها غرباء وأن الأخرة هي الخالدة ولهذا فإن الاغتراب لا يحمد ولا يعاب وقال:
وحي على جنّات عدن فإنها
منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو، فهل ترى
نعود إلى أوطاننا ونسلم؟
وأي اغتراب فوق غربتنا التي
لها أضحت إلى الأعداء فينا تحكم؟
وقد زعموا أنّ الغريب إذا نأى
وشطت به أوطانه ليس ينعم
فمن أجل ذا لا ينعم العبد ساعة
من العمر إلا بعدما يتألم
وقد عبر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن الغربة الإسلام ويقول: “بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء.”
وعن الاغتراب قال إبراهيم بن أدهم:
هجرت الخلق طرًا في هواكا
وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربًا
لما حنَّ الفؤاد إلى سواكا
ونجد المصطلح العام الشامل عند أبي حيان التوحيدي في مؤلفه: ” الإشارات الإلهية، حيث نجد هذا المصطلح المادي والمعنوي لهذه المفردة في قوله: فأين أنت من غريب قد طالت غربته في وطنه وَقل حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟ وأين أنت من غريب لا سبيل له إلى الأوطان ولا طاقة به على الاستقطاب؟”
أنواع الاغتراب في العصر العباسي
تعدد الاغتراب وظهر منها أشكال كثيرة وما زالت في تطور وظهور جديد منها، ومن أهمها ما تحدث عنها رواد الأدب في مؤلفاتهم ما يلي:
1- الاغتراب الاجتماعي: هو إحساس الشخص بالانقسام والبعد عن جوانب المجتمع مثل الابتعاد عن الأشخاص أو عن الثوابت والعادات المتعارف عليها في مجتمعه أو عن السلطة، ويُرافقه الإحساس بالألم والتشاؤم ويُصاحبه التمرد ورفض الواقع وهو سائد بشكل كبير في المجتمعات وبين الأشخاص ومثال عليه قول هدبة بن الخشرم:
يُجد النايُ ذِكرُك في فؤادي
إذا ذَهَلت عن الناي القلوب
فيأمن خائفٌ ويفكُ عانٍ
ويأتي أهله النائي تنأى
حبايبنا فَقَدتُك يا غُرابُ
كما تحدث عن ذلك يزيد بن مفرغ الحميري وأنشد:
ودهورٍ لقُيننا مُوجِعِاتٍ
وزمانٍ يُكسّرُ الجملودا
يا بُردُ ما مسّنا دهرٌ أضر بنا
من قبل هذا ولا بعنا له ولَدا
2- الاغتراب الروحي: ظهر هذا النوع في أبياته الزهاد والمتصوفة في ذاك العصر حيث كانوا يشعرون بالغربة في هذه الدنيا الفانية وحنينهم وشوقهم إلى الحياة الآخرة الباقية، ومثال عليه ما نظمه أبو العلاء مصورًا الحياة بأنها غول وكان يفضل الفناء على البقاء فيها وأنشد:
ظن الحياة عروسا خلقها حسن
وإنما هي غول خلقها شرس
أنبأنا لقيا الردى
الغوث من صحة ذلك النبأ
3- الاغتراب الاقتصادي: وجد هذا النوع بكثرة في شعر الصعاليك الطبقات الفقيرة على مر العصور نتيجة للأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمرون بها، فلا يجدون لقمة العيش التي تقيهم الجوع في بلادهم، فتوجهوا إلى الصحراء الواسعة التي لا ترفض لاجئًا ويقول بن أيوب في ذلك:
يظلُّ وما يبدو لشيءٍ نهارُه
ولكنّما ينباع والليل دامس
أزلُ وسعلاةٌ وغولُ بقفرةٍ
إذا الليل وارى الحسن فيه أرنّسَتِ
4- اغتراب المشيب: ظهر هذا الشكل من الاغتراب بكثرة في هذا الوقت وذلك نتيجة تطور الحياة والانغماس بحياة اللهو والترف، فأصبح الفرد متشبثًا بالدنيا متشبثًا بالحياة المادية وزاد لديه شعور الاغترابحينما يفقد شيئًا من دوافع المتعة، ومن هذا النوع برز آخر وهو الاغتراب عن النفس وكذلك الاغتراب عمن حوله من الأشخاص.
5- الاغتراب عن البلاد: ظهر هذا بسبب الرحيل والانتقال إلى غير وطنه وعرفوا البشر بمدى تعلقهم بشكل كبير في بلادهم التي نشأوا فيه، فإذا بعد عنه ظلَّ يشعر بالاغتراب ويحن إليه ويتمنى الرجوع إليه ومثال على هذا الشكل ما قاله أبو عثمان الخالدي عندما ترك موطنه ونظم:
إنا لنرحل والأهواء أجمعها
لديك مستوطنات ليس ترتحل
لكن كل فقير يستفيد غنى
دعاه شوق إلى أوطانه عجلُ
وكل غازٍ إذا جلّت غنيمته
فإن آثر شيء عنده القفلُ
ويظهر أيضًا عند الشريف الرضي الذي يشتاق إلى موطنه الحجاز حيث ذكريات الماضي وكلما اشتدت عليه الأمور يزيد شعوره بالغربة ويحن إليها وفي ذلك يقول:
أحنُّ إلى قومي كما حنَّ نازعٌ
إلى الماء قد دانى له القيدَ قاصرُ
ومن أبياته التي برز فيها حنينه إلى نجد:
فؤادي بنجدٍ والفتى حيث قلبُه
اسير، وما نجد إلى حبيبُ
وما لي فيه حبوة غير أنني
خلعت شبابي فيه وهو رطيبُ
بلى إن قلبًا ربما أتاح لوحة
فهل ماؤه للواردين قريب
ونرى ظاهرة الاغتراب الموجعة تظهر في أبيات أبو فراس الحمداني الذي أُسر فَكان يحن إلى موطنه في الشام وإلى أمه التي تجرعت الألم والأسى على ابنها حيث يقول:
يا حسرة ما أكاد أحملها
آخرها مزعج وأولها
عليلة بالشام مفردة
بات بأيدي العدى معللها
يا أمتا هذي منازلنا
نتركها تارة وننزلها
كما نرى ظاهرة الاغتراب في شعر امرئ القيس فنراه يعبر عن صور الرحيل ويقول:
كأني غداة البين يوم تحملوا
لدى سَمُرات الحي ناقف حنظل
وقوفًا بها صحبي على مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
كما نرى الاغتراب يتجلى في أبيات أبو العتاهية والتي اتسمت بالزهد ورفض الفساد والانحلال الذي حل في المجتمع وتوجه إلى الطمع في الآخرة وهجر ملذات الدنيا ويقول:
ألم تر ريب الدهر في كل ساعة
له عارضٌ فيه المنية تلمع
أيا باني الدُّنيا لغيرك تبتني
ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع
كما توجه إلى نصح الناس إلى هجر ملذات الحياة والطمع في الآخرة ويقول:
بليت وما تبلى ثياب صباكا
كفاك من اللهو المضرُ كفاك
ألم تر أن الشيب قد قام ناعيًا
مقام الشباب الغضي ثم معاك
وأخدع الليل والنهار لقوامٍ
أراهم في الغي قد رتعوا
أما المنايا غير عادلة
لكل حي من كأسها جُرَعُ
وظهر شعور الاغتراب في أبيات البحتري عندما توقف على الدمن متسائلاً حيث يقول:
لا أرى بالعقيق رسمًا يجيب
أسكنت آيهُ الصبا والجنوب
واقف يسأل الديار، وعدل
في سؤال الديار أو تأنيبُ
كما ظهر ذلك في أبياته ويقول :
وما انفك رسم الدار حتى تهللت
دموعي، وحتى أكثر اللوم صاحبي
وقفنا فلا الأطلال ردت إجابة
ولا العدل أجدى في المشوق المخاطب
وفي النهاية نستنتج إن ظاهرة الاغتراب قد برزت في الفترة العباسية نتيجة للكثير من الدوافع منها اقتصادية وأخرى سياسية، وكذلك برز الاغتراب الديني نتيجة حياة المجون التي شاعت في البلاد، ولقد برز فيها العديد من الشعراء مثل أبو العتاهية وغيره.