كان أهل المشرق منذ القدم أصحاب بلاغة وبيان ومعروف عنهم قوة التأثير الصوتي، حيث يولد في الذات الحماسة والثورة مما أعانهم من السيطرة والتحكم بأمور التجارة وفرض قوتهم على الطرق التجارية، كما اعتادوا أن يبدأوا مقطوعاتِهم بذكر المنازل والأرض والأماكن القريبة منها وصوروا نزول الأمطار عليها ونموّ النباتات فيها، وعرف عنهم كثرة ترحالهم بحثًا عن الكلأ والماء وهذا الأمر ترك أثر في نفوس المتحابين فكانوا يستهلون قصائدهم بالوقوف على الدمن والبكاء.
مفهوم ظاهرة الوقوف على الأطلال في العصر الجاهلي
يشير معنى الوقوف على الدِّمن في الزمن القديم استهلال الأبيات الشعرية التي تُنتج الشجن لدى الأديب وتحتوي أبيات هذه المواضيع وصفًا احترافي للطلل، وترمز الدمن على المواقع التي بقي بها الأديب برهة من حياته مخلفًا بها مقتطفات لا تنسى ويكون الوقوف حزينًا لديه.
والشعراء القدامى قد اتفقوا على احتواء الدمن الوقوف على المنازل والتسليم عليها وتعيينها وكشف مدة البعد وكذلك الوقوف، ولن ننسى ذكر الغزل والنواح التي تخرج من الشاعر لصاحبة المنزل ونقل كمية الأحاسيس التي سيطرت على الشاعر خلال فترة الوقوف بالدمن.
أسباب ظاهرة الوقوف على الأطلال
1- الترابط القوي بالديار: تواجد عشق الأرض في ذات الإنسان المشرقي القديم حيث ينشأ لديه إحساس الانتماء والاشتياق، وكثرة الكلام عن تلك الديار وتصويرها بأجمل المقطوعات الغنية بالمعاني وسيطرة التعلق بها وهذا العشق لا يتوقف على البشر فقط بل كانوا يصفون الحيوانات والنباتات في تلك الديار.
2- بيئة الحياة في الزمن القديم: يوجد في هذا الزمن مجتمعين البدوي وهذا كثير التنقل بسبب محاولة توفير ظروف معيشية مناسبة والحصول على الكلأ والماء، مما جعل الأديب يخلف ورائه بصمة وذكريات في كل مكان نزل به والأخر الحضر وكانت حياتهم الأكثر هدوء واستقرار .
3- المصير الغامض: يظهر الصراع الدائم مع الوقت في مستهل المقطوعات الطللية إذ يعتبر الكلام حول الدمن نمط لإحياءِ النفس، ويعتبر ترك ذلك هلاك مؤكد، فيستعمل أساليب يجدد بها الإيمان باللقاء مرة أخرى.
4- قوة التعلق بالمعشوقة:الغزل من الأشكال المنتشرة في الشعر القديم ويعد طريقة للتخفيف عن الذات والتوضيح عما يدور في داخل النفس، ويعد إبداع أدبي يميل له الحزين ويبهر إحساس المتين لارتباطه القوي بمشاعر الإنسان، ويذهب الأدباء للغزل توضيحًا عن حرقة البعد ولهيب الشوق.
5- الحنين القوي والشوق: يوضح مفهوم الشوق إلى الارتباط بشيءٍ ما وميل الذات إليه وغالبًا ما يكون الحنين الوجداني للمعشوق، يخط الأديب الجاهلي المقطوعات الشعرية التي توضح مدى الضياع ببعد المحبوب والإحساس بالحاجة الشديدة إليه ويعتبر النواح على المعشوق من أهم صفات الأدب القديم.
موضوعات شعر الأطلال في العصر الجاهلي
1- الاستهلال بذكرِ المنازل والسلام عليها: ارتبط ذكر الدمن بالمعلقات بشكل كبير حيث كانت الدمن فارغة وموحشة تبعث في النفس مشاعر قوية لدى الأديب، ونمط لتقوية الشوق إليها والوقوفِ على ذكريات الأحبة ومنازلهم.
2- النواح على الدمن: يُظهر الأديب آلامه بالبكاءِ وانهمار العبرات على المنازل من خلال استرجاع الذكريات وتعتبر الرابطة بين الدمن والبكاء علاقةً قوية توضح مفهوم السبب والتسبب.
3- ذكر الآثار الطللية: يخاطب الأديب الصخور وبقايا المنازل والآثار لتكون حجة مقنعة على تملك الذكريات من نفسه وسيطرتها عليه.
نماذج من الوقوف على الأطلال في الشعر الجاهلي
قول امرؤ القيس حين نزل بديار المعشوقة:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسَقْط اللوى بين الدَّخول فحومل
وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم
يقولون: لا تهلك أسى وتحمل
ففاضت دموع العين مني صبابة
على النحر حتى بلّ دمعي محملي
كذلك قول طرفة بن العبد حين وقف بالدمن وقد بدأ مقطوعته بذكر اسم محبوبته:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفا بها صحبي عليَّ مطيهم
يقولون لا تهلك أسى و تجلد
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن
مظاهر سمطى لؤلؤ و زبرجد
وتبسم عن ألمى كأن منورا
تخلل حرّ الرمل دعص له ند
قول النابغة الذبياني يتوسل رفاقه حتى يتوقفوا عند ديار المحبوبة ليسلم عليها:
عُوْجُوا فحَيّوا لنُعْمٍ دمنة الدار
ماذا تحيون من نؤى وأحجار؟
وقفت فيها سَراة اليوم أسألها
عن آل نعم أمُوْنا عبر أسفار
فاستعجمت دار نعم ما تكلمنا
والدار لو كلمتنا ذات أخبار
تأثير الوقوف على الأطلال
- كان للوقوف على الأطلال تأثير كبير على الشعر العربي، حيث أصبح تقليدًا شائعًا في معظم القصائد.
- ساعد على إثراء اللغة العربية بصور شعرية جديدة.
- عبّر عن مشاعر إنسانية عميقة مثل: الحزن، الأسى، الوفاء، التعلق.
مكونات الوقوف على الأطلال
- الوقوف على الأطلال: يبدأ الشاعر بوصف الديار الخالية، وذكر معالمها الطبيعية مثل: الرسوم، الدمن، الديار، الطلول، مع ذكر بعض مظاهر الخراب مثل: عفت، بادت، درست، تغيرت.
- التذكر: يتذكر الشاعر أيام الحب والهوى التي قضاها في هذه الديار.
- التأمل: يتأمل الشاعر في تقلبات الزمن وتأثيره على كل شيء.
- الحكمة: يستخلص الشاعر بعض الدروس والعبر من هذه التجربة.
أهداف الوقوف على الأطلال
- إثارة مشاعر الحزن والأسى على فراق الأحبة.
- التعبير عن مشاعر الوفاء والتعلق بالديار.
- التذكير بمآسي الزمن وتقلباته.
- ربط الحاضر بالماضي من خلال استحضار ذكريات الديار.
وفي النهاية نستنتج إن عادة الوقوف بالدِمن قد انتشرت في الأدب الجاهلي نتيجة التنقل الكثير بحثًا عن أسباب العيش الكريم، مما نتج عنه البعد والفراق بين الأحبة فتوجهوا إلى ذكر ديار والبكاء من خلال المقطوعات الشعرية ومن أهم من وقفوا بالديار في ذلك الوقت امرؤ القيس وطرفة وغيرهم الكثير.