عمل بوبر الفلسفي أنا وأنت

اقرأ في هذا المقال


مارتن بوبر فيلسوف ديني يهودي ألماني ومترجم توراتي ومترجم وأستاذ أسلوب النثر الألماني، تركزت فلسفة بوبر على لقاء أو حوار بين الإنسان والكائنات الأخرى، وتجسد بشكل خاص في العلاقة مع البشر الآخرين ولكن في النهاية استندت إلى العلاقة مع الله والإشارة إليها، وبلغ هذا الفكر تعبيره الحواري الكامل في أنا وأنت (Ich und Du) عام 1923.

النمط الوجودي للكلمات أنا-أنت وأنا-هو:

يستند عمل مارتن بوبر الفلسفي الأكثر تأثيرًا أنا وأنت في عام 1923 على التمييز بين أزواج من الكلمات التي تحدد نمطين أساسيين للوجود وهما:

1- أنا-أنت (I-Thou) (Ich-Du).

2- أنا-هو (I-It) (Ich- Es).

علاقة أنا-أنت هي لقاء خالص لكيان فريد كامل مع كيان آخر بطريقة يُعرف الآخر بها دون أن يندرج تحت كونية، ولا تخضع بعد للتصنيف أو التحديد، (أنت) لا يمكن اختزالها إلى الخصائص المكانية أو الزمنية، وعلى النقيض من ذلك فإنّ علاقة (أنا-هو) مدفوعة بفئات من (نفسه) و(مختلف) وتركز على التعريف الشامل، وتختبر علاقة (أنا-هو) شيئًا منفصلًا وثابتًا في المكان والزمان، بينما تشارك علاقة (أنا أنت) في العملية الحية الديناميكية لـ (الآخر).

يصف بوبر علاقات (أنا وأنت) على أنّها علاقات حوارية وأنا أنت على أنّها علاقات أحادية، وفي مقالته التي صدرت عام 1929 بعنوان حوار أوضح بوبر أنّ المونولوج ليس مجرد ابتعاد عن الآخر بل هو أيضًا تراجع عن الذات (Rückbiegung)، ولإدراك الآخر كجسم هو اعتباره ككائن مصنف وبالتالي يمكن التنبؤ به ويمكن التلاعب به ولا يوجد إلّا كجزء من تجارب الفرد، وبالمقابل في علاقة (أنا-أنت) يوجد كلا المشاركين كأقطاب للعلاقة يقع مركزها في الوسط (Zwischen).

يختلف (أنا) الإنسان في كلا نمطي الوجود، يمكن اعتبار أنا مجموع سماته وأفعاله المتأصلة، أو يمكن اعتباره كائنًا موحدًا كليًا غير قابل للاختزال، وإنّ علاقة الـ (أنا) الخاصة بـ (أنا-هو) هي فرد منغلق على نفسه وانفرادي (der Einzige) يأخذ نفسه على أنّه موضوع التجربة، وإنّ علاقة الـ (أنا) الخاصة بـ (أنا-أنت) هي شخص واحد كامل ومركّز (der Einzelne) يعرف نفسه على أنّه موضوع، وأوضح بوبر في كتاباته اللاحقة أنّ الحياة الداخلية لا تُستنفد بسبب هذين الأنماط من الوجود، ومع ذلك عندما يقدم الإنسان نفسه إلى العالم فإنّه يأخذ واحدة منهم.

فلسفة بوبر والإدراك الأرسطي:

بينما يولد كل واحد منا فردًا يعتمد بوبر على الفكرة الأرسطية للإدراك الذاتي أو الإدراك الذاتي الفطري، ليقول إنّ تطور هذه الفردية أو الاختلاف المطلق إلى شخصية كاملة أو اختلاف محقق وهو إنجاز مستمر، والتي يجب صيانتها باستمرار، ويشرح بوبر في كتابه (أنا وأنت) أنّ الذات تصبح إما أكثر انقسامًا أو موحدة أكثر من خلال علاقاتها بالآخرين، وهذا التركيز على الذاتية هو الاختلاف الرئيسي بين أنا وأنت ودانيال السابق لبوبر في حوارات حول الإدراك في عام 1913، فمثل أنا وأنت يميّز دانيال بين نمطين للوجود وهما:

1- التوجيه (Rientierung) وهو فهم علمي للعالم يربط بين التجارب.

2- الإدراك (Verwirklichung) وهو الانغماس في التجربة الذي يؤدي إلى حالة من الكمال.

في حين أنّ هذه تنذر بأسلوب أنا-هو وأنا-أنت لا يعبر أي منهما عن علاقة بالآخر الحقيقي، ففي أنا وأنت يصبح الإنسان كاملاً ليس فيما يتعلق بنفسه ولكن فقط من خلال العلاقة مع الذات الأخرى، ويتم تكوين (أنا) لعلاقة (أنا وأنت) في علاقة حوارية يكون فيها كل شريك نشطًا وسلبيًا على حد سواء ويتم تأكيد كل منهما على أنّه كائن كامل، وفقط في هذه العلاقة يكون الآخر حقًا (آخر)، وفقط في هذا اللقاء يمكن لـ(أنا) أن تتطور ككل.

بوبر ومجالات الحوار:

يحدد بوبر ثلاثة مجالات للحوار أو علاقات (أنا أنت) والتي تتوافق مع ثلاثة أنواع من الآخر، فنحن نتبادل في اللغة مع تصور واسع مع الإنسان وننقل اللغة أدناه مع الطبيعة ونتلقى اللغة أعلاه بروح، ويتم تقديم سقراط باعتباره الشخصية النموذجية للحوار مع الإنسان، وجوته والحوار مع الطبيعة، ويسوع والحوار مع الروح، ويسهل رؤية دخولنا في حوار مع الإنسان حيث أننا ندخل أيضًا في حوار مع الطبيعة والروح أقل وضوحًا وهو الجانب الأكثر إثارة للجدل وسوء الفهم في أنا وأنت.

ومع ذلك إذا ركزنا على علاقة أنا وأنت كاجتماع للتفردات، فيمكننا أن نرى أنّه إذا دخلنا حقًا في علاقة بشجرة أو قطة على سبيل المثال فإننا نفهمها ليس كشيء له سمات معينة، وتقديم نفسها كمفهوم يجب تشريحه ولكن ككائن واحد وكل واحد يواجه الآخر.

الحوار مع الروح هو الأكثر صعوبة في التفسير لأنّ بوبر يستخدم عدة صور مختلفة له، فأحيانًا يصف الحوار مع الروح بأنّه حوار مع (أنت الأبدي) والذي يسميه أحيانًا الله والذي هو دائمًا (الآخر)، ولهذا السبب اعتنق اللاهوتيون البروتستانتيون أنا وأنت على نطاق واسع، والذين كانوا أيضًا يؤمنون بفكرة عدم وجود وسيط ضروري للمعرفة الدينية، يجادل بوبر أيضًا بأنّ الشرط المسبق للمجتمع الحواري هو أن يكون كل عضو في علاقة دائمة بمركز مشترك أو (أنت الأبدية)، وهنا تمثل (أنت الأبدي) وجود العلائقية كقيمة أبدية.

في أوقات أخرى يصف بوبر الحوار مع الروح على أنّه لقاء مع الشكل يحدث في لحظات الإلهام الفني أو المواجهة مع الشخصية التي تحدث في المشاركة المكثفة مع أعمال مفكر آخر، والعنوان الروحي هو الذي يدعونا إلى تجاوز حالتنا الحالية من خلال العمل الإبداعي، ويمكن أن يكون الشكل الأبدي إما صورة للذات يشعر المرء بدعوتها إلى أن يصبح أو شيئًا ما أو فعلًا يشعر المرء أنّه مدعو لجلبه إلى العالم.

نقد فلسفة عمل بوبر الفلسفي أنا وأنت:

إلى جانب القلق بشأن وصف بوبر لحوار الإنسان مع الطبيعة والروح أثيرت ثلاث شكاوى رئيسية أخرى ضد أنا وأنت وهي:

1- الأول الذي ذكره والتر كوفمان في مقدمة ترجمته لـ (أنا وأنت) هو أنّ اللغة غامضة للغاية والرومانسية، بحيث يكون هناك خطر أن ينجرف القارئ من الناحية الجمالية إلى التفكير في أنّ النص أكثر عمقًا من هو في الواقع، ويقر بوبر أنّ النص كتب في حالة من الإلهام، ولهذا السبب من المهم بشكل خاص قراءة مقالاته اللاحقة والتي تمت كتابتها بشكل أوضح ومناقشتها بدقة.

2- يلاحظ ادمون لا بوم تشيربونير في (استجواب مارتن بوبر) أنّ كل نقد موضوعي لفلسفة بوبر ينتمي بحكم التعريف إلى عالم أنا-هو (I-It)، ونظرًا لعدم قابلية الوضعين للقياس فإنّ هذا يعني عدم إمكانية النقد الموضوعي لنمط (أنا-أنت)، ويوضح بوبر في رده أنّه مهتم بتجنب التناقض الداخلي ويرحب بالنقد، ومع ذلك فهو يقر بأنّ نيته لم تكن إنشاء نظام فلسفي موضوعي ولكن لنقل تجربة.

3- أخيرًا غالبًا ما يتم انتقاد (أنا-أنت) بسبب تشويه سمعة المعرفة الفلسفية والعلمية من خلال رفع لقاءات أنا وأنت فوق لقاءات أنا-هو، فمن المهم أن نلاحظ أنّ بوبر لا يتخلى بأي حال من الأحوال عن فائدة وضرورة أوضاع أنا-هو، فوجهة نظره هي بالأحرى التحقيق في ماهية أن تكون شخصًا وأنماط النشاط التي تزيد من تطور الشخص.

على الرغم من أنّ المرء إنسان حقيقي فقط إلى الحد الذي يكون فيه قادرًا على علاقات أنا وأنت، فإنّ عالم (هو) يسمح لنا بالتصنيف والوظيفة والتنقل، وإنّه يمنحنا كل المعرفة العلمية ولا غنى عنه للحياة، وهناك بنية متدرجة لعلاقات (أنا-هو) لأنّها تقترب من علاقة (أنا-أنت) ، لكن أنا-أنت تظل متناقضة حتى مع أعلى مرحلة في علاقة أنا-هو، والتي لا تزال تحتوي على بعض تجسيد.

ومع ذلك يجب أن يتحول كل (أنت) أحيانًا إلى (هو) لأننا في الرد على (الآخر) نلزمه بالتمثيل، وحتى (أنت الأبدي) يتحول إلى (هو) بالنسبة لنا عندما يصبح الدين والأخلاق والفن ثابتًا وميكانيكيًا، ومع ذلك يمكن تكوين علاقة (أنا-هو) بطريقة تجعل إمكانية مواجهات (أنا-أنت) مفتوحة أو لإغلاق هذا الاحتمال.


شارك المقالة: