لقد قدّم الفيلسوف أناكساجوراس نظريات حول مجموعة متنوعة من الموضوعات، إلّا أنّه اشتهر بنظريتين وهما أنّه تكهن أنّ في العالم المادي يحتوي كل شيء على جزء من كل شيء آخر، وقد دفعته ملاحظته لكيفية عمل التغذية في الحيوانات إلى استنتاج أنّه لكي يتحول الطعام الذي يأكله الحيوان إلى عظم وشعر ولحم وما إلى ذلك، كما يجب أن يحتوي بالفعل على جميع تلك المكونات بداخله، أما النظرية الثانية للأهمية هي افتراض أناكساجوراس للعقل (Nous) كمبدأ البدء والحكم للكون.
فلسفة أناكساجوراس في أصل الكون:
تذكرنا نظرية الفيلسوف أناكساجوراس عن أصول العالم بنشأة الكون التي تم تطويرها سابقًا في تقليد أيوني لا سيما من خلال أناكسيمين وأناكسيماندر، وتصور النظريات التقليدية عمومًا وحدة أصلية تبدأ بالانفصال إلى سلسلة من الأضداد، حيث احتفظ أناكساجوراس بالعديد من العناصر الأساسية لهذه النظريات، ولكنه قام أيضًا بتحديث هذه الكونيات وعلى الأخص من خلال إدخال العامل المسبب (العقل) الذي هو البادئ في عملية النشوء.
قبل بداية العالم كما نعرفه تم دمج كل شيء معًا بطريقة موحدة بحيث لم تكن هناك صفات أو مواد فردية يمكن تمييزها، وكانت كل الأشياء معًا غير محدودة من حيث الكمية والصغيرة، وعلى هذا النحو كان الواقع مثل كل بارمينيديا باستثناء هذا كله احتوى على جميع المسائل الأولية أو البذور.
في مرحلة ما يتم تحفيز الوحدة في حركة دوامة بقوة وسرعة ولا يوجد شيء الآن بين البشر، ولكن بأسرع ما يمكن عدة مرات وتبدأ هذه الحركة بالفصل، وهو الهواء والإيثر وهما أول مكوّنات المادة التي تصبح مميزة، ومرة أخرى هذا لا يمكن رؤيته في مصطلحات إمبيدوكلين للإشارة إلى أنّ الهواء والأثير عنصران أساسيان وهما ببساطة جزء من المكونات اللانهائية للمادة التي تمثلها عبارة خليط وبذور.
عندما ينفصل الهواء والأثير تتجلى جميع العناصر الأخرى في هذا الخليط أيضًا: “من هذه الأشياء عندما يتم فصلها تتراكم الأرض، ولأنّ الماء ينفصل عن الغيوم والأرض عن الماء، ومن الأحجار الترابية تتفاقم بفعل البرد وهذه (أي الحجارة) تتحرك أبعد من الماء”، لذلك يتم تصوير أصل العالم من خلال عملية الحركة والانفصال عن الخليط الموحد، كما أنّه في الإجابة على كيف نشأة الكون فإنّ أناكساجوراس هو تقليدي إلى حد ما في نظريته، ومع ذلك عند اقتراح البادئ أو التفسير السببي لأصول العملية يفصل أناكساجوراس نفسه عن أسلافه.
فلسفة أناكساجوراس في العقل:
دور العقل:
وفقًا لأناكساجوراس فإنّ العامل المسؤول عن دوران وفصل الخليط البدائي هو (العقل) أو (nous): “وعندما بدأ العقل في إحداث الحركة، واستمر الانفصال في الحدوث عن كل ما تم تحريكه، وتم فصل كل ذلك العقل عن بعضه، وعندما تم تحريك الأشياء وفصلها عن بعضها البعض وتسبب الدوران في حدوث المزيد من الانفصال عن بعضها البعض”، كما أنّه من المهم إلى حد ما أن أناكساجوراس يفترض تفسيرًا لحركة الكون، وهو أمر لم تقدمه نشطاء الكون السابقون.
ولكن كيف يمكن فهم هذا التفسير؟ يبدو أنّه يمكن للمرء أن يستنتج أنّ العقل يعمل ببساطة باعتباره السبب الأولي للحركة، وبمجرد حدوث الدوران فإنّ الزخم يضع كل شيء في مكانه، وفي هذه الحالة من المغري تخصيص وظيفة ربانية للعقل، ومع ذلك في مقاطع أخرى يصور العقل على أنّه (يحكم) الدوران ويضع كل شيء بالترتيب بالإضافة إلى امتلاكه القوة والمعرفة العليا لكل الأشياء، وفي هذه الحالة من المغري وصف العقل بمصطلحات إيمانية.
يجب تجنب كل من هذه الإغراءات لأنّ أناكساجوراس ظل طبيعيًا تمامًا في فلسفته، وفي الواقع تفرد أناكساجوراس هو أنّه اقترح مبدأ تحكمًا عقلانيًا ظل خاليًا من الخصائص الأسطورية أو اللاهوتية لنشأة الكون السابقة، وخلفاؤه الفلسفيون ولا سيما سقراط وأفلاطون وأرسطو متحمسون جدًا لإيجاد مبدأ كوني موحد في أناكساجوراس لا يلمح إلى أهواء الآلهة، وإنّهم يأملون أن يجدوا فيه امتدادًا لهذا المبدأ في تفسير مدفوع الغرض للكون، وللأسف لقد خاب أملهم جميعًا لأنّ أناكساجوراس لا يحاول تطوير نظريته في العقل بهذه الطريقة.
ما كان سقراط وأفلاطون وأرسطو يأملون في اكتشافه في أناكساجوراس لم يكن مجرد سرد لكيفية نشوء الكون (سبب فعال)، ولكنه تفسير لسبب ولأي غرض بدأ الكون (سبب نهائي)، وتم استبدال الإثارة الأولية حول نظريته بخيبة الأمل في حقيقة أنّ أناكساجوراس لا يغامر بما يتجاوز المبادئ التفسيرية الآلية ويقدم تفسيرًا لكيفية قيام العقل بترتيب كل شيء للأفضل.
على سبيل المثال في فيدو ناقش سقراط كيف تبع حجة أناكساجوراس بفرح كبير، واعتقد أنّه وجد: “معلمًا عن أسباب الأشياء بعد قلبي”، وإنّ فرح سقراط قصير العمر إلى حد ما: “لقد تحطم هذا الأمل الرائع عندما تابعت القراءة ورأيت أنّ الرجل لم يستخدم العقل ولم يعطه أي مسؤولية لإدارة الأشياء، ولكن تم ذكره على أنّه يسبب الهواء والأثير و الماء والعديد من الأشياء الغريبة الأخرى”، وبالمثل يصف أرسطو أناكساجوراس بأنّه مفكر رصين وأصلي، لكنه يوبخه لاستخدامه العقل كآلة خارجة لتفسير خلق العالم، وإلّا فسوف يستخدم أي شيء بدلاً من العقل لشرح ظاهرة معينة.
على الرغم من حقيقة أنّ أناكساجوراس لم يتابع الأمور بقدر ما كان يود خلفاؤه ذوي العقلية الغائية، فإنّ نظريته عن العقل كانت بمثابة قوة دفع نحو تطوير أنظمة كونية تتكهن بالأسباب النهائية، وعلى الجانب الآخر كان افتقار أناكساجوراس إلى التخمين في القوى غير الميكانيكية في العالم بمثابة مصدر إلهام للأنظمة الكونية الأكثر مادية التي تلت ذلك.
طبيعة العقل:
هنا يطرح السؤال التالي: لكن ما هو العقل بالضبط وفقًا لأناكساجوراس؟ حيث استنادًا إلى الأدلة الموجودة في الشظايا هذا سؤال يصعب الإجابة عليه، حيث يبدو أنّ للعقل خصائص متناقضة، وفي جزء صغير واحد على سبيل المثال يدعي أناكساجوراس أنّ العقل هو الاستثناء الوحيد لمبدأ وجود جزء من كل شيء في كل شيء، ومع ذلك فإنّ هذا الادعاء يتبعه على الفور الادعاء المضاد ولكن العقل في بعض الأشياء أيضًا.
ففي مكان آخر يؤكد أناكساجوراس على استقلالية العقل وانفصاله، حيث بينما يمضي ليقول مع ذلك أنّ العقل: “هو إلى حد كبير حتى الآن حيث توجد كل الأشياء الأخرى أيضًا، وفي الجمهور المحيط وفي الأشياء التي اجتمعت معًا في عملية الانفصال وفي الأشياء التي انفصلت”.
يؤكد معظم المعلقين أنّ أناكساجوراس ملتزم بازدواجية من نوع ما مع نظريته في العقل، ولكن ثنائية العقل أو المادة الخاصة به هي من النوع الذي يبدو أنّ كلا المكونين لهما طبيعة جسدية، فالعقل مادي ولكنه يختلف عن بقية المادة من حيث أنّه أدق وأنقى ويبدو أنّه يتصرف بحرية، ويمكن فهم هذه النظرية بشكل أفضل من خلال النظر في زعم أناكساجوراس أنّ النباتات تمتلك عقولًا، وإنّه عقل النبات الذي يمكّنه من البحث عن الغذاء والنمو، ولكن هذا العامل الديناميكي في النبات لا يختلف عن النبات نفسه.
كان من الممكن أن يكون هذا رأيًا بيولوجيًا شائعًا في ذلك الوقت، ولكن حيث يكون أناكساجوراس جديدًا هو أنّه يوسع أعمال العقل على مستوى النباتات والحيوانات إلى مبدأ كوني يحكم كل الأشياء، وإنّ عقل الكون هو مبدأ تحكم ديناميكي جوهري للنظام الطبيعي بأكمله مع الحفاظ على قوته المحددة المتسامية، ومن منظور أناكساجوراس يبدو أنّه مبدأ طبيعي وإلهي.