فلسفة أناكساجوراس في العقل أو الفكر

اقرأ في هذا المقال


أناكساجوراس من كلازوميناي (Anaxagoras of Clazomenae)، وكلازوميناي مدينة يونانية رئيسية في آسيا الصغرى الأيونية، وأناكساجورس فيلسوف يوناني من القرن الخامس قبل الميلاد من مواليد 500-480، حيث كان أول فلاسفة ما قبل السقراط الذين عاشوا في أثينا، وطرح نظرية فيزيائية لمبدأ: “كل شيء في كل شيء”، وادّعى أنّ (nous) أي العقل أو الفكر هو السبب الدافع للكون.

فلسفة أناكساجوراس في العقل والمكونات:

وفقًا لديوجينس لايرتيوس (Diogenes Laertius) اكتسب الفيلسوف اليوناني القديم أناكساجوراس لقب السيد العقل (Mr. Mind)، فبرأيه أنّ الكون يتحكم فيه العقل أو الذكاء، وقد اجتذب سقراط أولاً ثم خيب أمله، حيث صفق أفلاطون وأرسطو الفيلسوف أناكساجوراس لاستخدامه العقل (nous) كمبدأ أول للحركة، لكن كلاهما انتقده لفشل في الاتساق في هذا الاستخدام بحجة أنّه بمجرد استدعاء العقل لضبط الخليط الأصلي في الحركة، فقام أناكساجوراس بتقليل الأسباب اللاحقة إلى آلية طائشة.

أناكساجوراس يصّر على أنّ العقل (nous) يختلف تمامًا عن المكونات التي تشكل الخليط الأصلي، وإنّه الشيء الوحيد الذي لا ينطبق عليه مبدأ كل شيء في كل شيء، فالعقل موجود في بعض الأشياء لكنه ليس مكونًا أو مشاركة، حيث أنّ اللحم والدم مكونان في الكلب، ففي أحد المقاطع للمكونات ذكر أناكساجوراس بأنّ: “في كل شيء يوجد نصيب من كل شيء ما عدا العقل، ولكن هناك بعض الأشياء التي يكون فيها العقل أيضًا حاضر”، وفي مقطع آخر والذي يعد أطول جزء موجود يدّعي فيه أناكساجوراس أنّه إذا كان العقل (nous) مجرد مكون آخر فإنّه لا يمكن أن يعرف ولا يحكم بالطريقة التي يفعلها.

والأشياء الأخرى لها نصيب في كل شيء أما العقل فهو غير محدود وحكم نفسه وقد اختلط بلا شيء بل هو وحده بذاته، ولأنّه إذا لم يكن منفرداً بل اختلط بأي شيء آخر لكان قد اشترك في كل شيء، وإذا كان قد اختلط بشيء لأنّ كل شيء في كل شيء، والأشياء الممزوجة به تحبطه حتى لا يتحكم في أي من الأشياء بالطريقة التي يتحكم بها في الواقع كونه بمفرده، ولأنّه أرقى الأشياء وأنقى وهو في الواقع يحافظ على كل تمييز في كل شيء وله أعظم قوة.

دور العقل والكون في فلسفة أناكساجوراس:

يلعب العقل أو الفكر عددًا من الأدوار في نظام أناكساجوراس، حيث أولاً يتم تدشين دوران كتلة المكونات ثم يتحكم في هذا الدوران، والدورات المحلية التي تحدث داخل الدوامة الكبيرة التي هي الكون كله، فأناكساجوراس يوضح أنّ العقل ليس فقط السبب الأول بل هو أيضًا كما يمكن للمرء أن يقول هو حافظ النظام في الكون، لأنّه يحافظ على الدورات التي تحكم جميع العمليات الطبيعية، ولا يشرح أناكساجوراس كيفية عمل هذه العمليات أو كيف يمكن أن يؤثر العقل على المكونات.

لكن هناك تلميحًا لاستدلاله في تعليق في أرسطو بأنّه عندما قال أحدهم أنّ العقل موجود -في الطبيعة تمامًا كما هو الحال في الحيوانات- كسبب للكون ومن كل ترتيب، ظهر كرجل رصين بين الثرثرة العشوائية الذين سبقوه، فنحن نعلم أنّ أناكساجوراس كان يحمل هذه الآراء بوضوح، ولكن هيرموتيموس من كلازوميناي ينسب إليه الفضل في الاحتفاظ بها في وقت سابق.

مثلما نتحكم في أجسادنا بأفكارنا كذلك يتحكم العقل في الكون، وقد لا نكون واضحين بشأن التفاصيل لكن النتائج واضحة لنا، فإحدى النقاط الأساسية حول نظرية أناكساجوراس للعقل هي أنّه لا يوجد مكان في المادة الموجودة يحدد العقل بمبدأ إلهي أو إله.

وفي أحد الأجزاء وفي كتاب (نساء طروادة) 886 يقول يوريبيدس أنّ العقل هو إله في كل منا، ويربط ضرورة الكون بزيوس والعقل ويُعتقد أنّ هذه الادعاءات قد تأثرت بآراء أناكساجوراس، على الرغم من أنّ تقارير الشهادات اللاحقة في أتيوس وامبليكوس تقول أنّ أناكساجوراس ربط بين الله والروح، وهناك العديد من التقارير عن إنكاره للألوهية للأجسام السماوية وإلحاده المزعوم.

فالعقل هو أقوى شيء في الكون ويتحكم في الدوران وكل الأشياء التي تسببت في وقوعه، ويكمن جزء من تلك القوة والسيطرة في قدراتها المعرفية، حيث يؤكد أناكساجوراس أنّ العقل له كل الحكم والتمييز حول كل الأشياء، وعلاوة على ذلك تمتد هذه المعرفة إلى كل ما ينشأ من الخلطات والانفصال الناتج عن الدوران الأصلي، حيث ميّزهم العقل جميعًا، أي الأشياء التي تختلط معًا والأشياء التي يتم فصلها والأشياء التي يتم فصلها، وبغض النظر عن أنواع الأشياء التي ستكون ومهما كانت الأنواع وما هي الآن ليست كذلك وكل ما هو موجود الآن وأيًا كان نوعه فسيتم ترتيب كل هذه الأشياء.

يشير هذا إلى بداية إجابة للاعتراضات المقدمة ضد استخدام أناكساجوراس للعقل كسبب، في حين أنّ العقل ليس السبب الغائي والأخلاقي الذي كان سقراط يبحث عنه في فيدو، ويمكن أن يكون العقل بمثابة تفسير نهائي، فلا يقول أناكساجوراس في أي مكان أنّ العقل يرتب الأشياء بطريقة معينة لأنّه من الأفضل بالنسبة لهم أن يكونوا كذلك، أو حتى يقترح شيئًا مثل السبب النهائي الأرسطي.

فالأمور على ما هي عليه لأنّ هذه هي الطريقة التي تكشفت بها الأشياء منذ أن بدأ العقل في تحريك كل شيء واستمر في تحريكها، وقد يقارن المرء هذا بدور المحرك غير المتحرك باعتباره السبب النهائي في كون أرسطو، على الرغم من كونه السبب الأول لا يخلق المحرك غير المتأثر.

يربط أناكساجوراس بين العقل والروح في أحد المقاطع للمكونات بأنّه: “يمتلك العقل السيطرة على كل الأشياء التي لها روح سواء الأكبر منها أو الأصغر”، وهذا لا يشير فقط إلى أنّ أناكساجوراس اتخذ تصرفات البشر والحيوانات كنموذج لكيفية سيطرة العقل على الكون، ولكنه يشير أيضًا إلى كيفية اختلاف العقل عن المكونات الأخرى، ويدّعي أنّها أنقى وأجود الأشياء.

كما يجادل بعض العلماء بأننا في أفلاطون فقط نلتقي بمفهوم حقيقي عن غير المادي، ولكن إنكار أناكساجوراس أنّ العقل يختلط أو يشارك في مكونات أخرى (بينما لا يزال في بعض منها) وإصراره على صفاءه ونقاوته، وقد يوحي بأنّه يفكر في العقل ككيان غير مادي يمكنه أن يتغلغل ويتحكم في الجسد أو حتى الكون كله دون أن يكون جزءًا ماديًا منه، وفي أي من التفسرين إذا كان العقل مجرد مكون عادي على قدم المساواة مع المكونات الأساسية الأخرى، فعندئذ كما يشير أناكساجوراس في أحد المقاطع بأن صغره النسبي سيسمح بغمره والتغلب عليه (أي إحباطه) بواسطة المكونات الأخرى.


شارك المقالة: