فلسفة أناكساجوراس في المعرفة وتأثير فلسفته

اقرأ في هذا المقال


يقال إنّ أناكساجوراس هو أول فلاسفة ما قبل السقراط استقر في أثينا، وكان شخصية مهمة وليس فقط للمفكرين الفلسفيين اللاحقين، ولكن أيضًا للثقافة المدنية الأوسع في عصره، ومن الواضح أنّه كان له تأثير مهم على بريكليس.

المعرفة لدى فكر أناكساجوراس:

اشتكى كل من النقاد القدامى والحديثين من أنّ أناكساجوراس ليس واضحًا بشأن طبيعة (nous) أي العقل أو الذكاء وكذلك دورها في نظريته، ويدّعي أناكساجوراس أنّ للعقل كل تمييز، وعلاوة على ذلك يلاحظ أناكساجوراس أنّ هناك عقلًا في أشياء كثيرة، وأنّه متشابه في كل الأشياء الموجودة فيه كبيرها وصغيرها (يفترض أنّها ذات روح أي كائنات حية).

يقول أرسطو أنّ أناكساجوراس يخلط بين الروح والعقل، فبقدر ما يعامل أناكساجوراس العقل في المقام الأول كمحرك، ولكنه يقول أيضًا إنّه يتحكم في كل الأشياء التي لها روح، ويبدو من المحتمل أنّه في الأشياء الأخرى غير العقل الكوني، تلك التركيبات الطبيعية المضغوطة أو المختلطة معًا والتي لها روح فإنّ قوى العقل تشمل المعرفة والإدراك.

لا يوجد في أي مكان تحليل لعملية التفكير لأناكساجوراس، وعلى الرغم من أنّ أرسطو وثيوفراستوس يقولان إنّ المفكرين الأوائل حددوا التفكير والإدراك الحسي، إلّا أنّ هناك القليل من الأدلة على هذا الرأي في أناكساجوراس.

يبدو من الواضح أنّه إذا كان لدى العقل كل الفطنة وأن يأمر الكون، فلا بد أن يكون لديه بعض المعرفة بمحتويات الخليط الأصلي، علاوة على ذلك إذا كانت المكونات أشياء حقيقية في الأساس فيجب أن تتمتع بطبيعة مستقرة ومعرفة، ويأتي هذا من حجج بارمينيدس حول العلاقة بين ما هو موجود وما هو معروف، وبالتالي هناك تطابق بين طبيعة المكونات والقوة المعرفية للكون الكوني لكن أناكساجوراس يترك الآلية غير مفسرة، ويبدو من المحتمل أنّ العقل الكوني لديه فهم فكري مباشر لهذه الطبيعة ويتصرف وفقًا لتلك المعرفة.

العقل فينا:

فقط عدد قليل من الشظايا والشهادات تناقش آراء أناكساجوراس حول الإدراك والمعرفة في الكائنات الحية، ويعطينا أرسطو وثيوفراستوس بعض المعلومات عن نظريته في الإدراك، قائلين الأكثر غرابة أنّ كل الأحاسيس بالنسبة لأناكساجوراس مصحوبة بعدم الراحة أو الألم، ويربط ثيوفراستوس هذا باعتقاد أناكساجوراس أنّ الشبه يُدرك من خلال خلاف، ومن وجهة نظر ثيوفراستوس الإدراك يكون عن طريق اللمس وعلى عكس الأشياء تنتج بعض التهيج عند لمسها.

يُصدر ثيوفراستوس ضوضاء عالية وضوءًا ساطعًا للغاية كمنتجين للألم في الإدراك، ويقترح أنّ الآلية هي نفسها في جميع حالات الإحساس، وسيكون بعض التهيج أقل من مستوى الوعي لدى معظم المدركين ولهذا السبب لا يشعر البشر عادة بالألم عند الإدراك.

ولكن ما هي العلاقة بين الإدراك والمعرفة؟ فأناكساجوراس لا يدعي أنّ الإدراك وحده كافٍ للمعرفة ولا يبدو أنّه يتبنى الشكوك، بينما سكستوس إمبيريكوس الذي يبحث دائمًا عن الحجج المؤيدة والمعارضة لأي موقف عقائدي يقدم لنا معظم الأدلة على آراء أناكساجوراس، ويقول سكستوس عن منهجية المتشككين: “لقد وضعنا ما يعتقد أنّه يتعارض مع ما يظهر حيث وضع أناكساجوراس مظهرًا أنّ الثلج أبيض على عكس الادعاء بأنّ الثلج هو ماء متجمد والماء أسود وبالتالي فإن الثلج أسود”.

يقبل أناكساجوراس هنا أنّ الثلج يبدو لنا أبيض لكنه يدّعي أنّ الحقيقة يجب أن تكون أنّ الثلج أسود، ويجب تصحيح دليل الحواس بما نعرفه من خلال الفكر، حيث يدرك أناكساجوراس ضعف الحواس (وبسبب ضعف الحواس لا يمكننا تحديد الحقيقة)، لكنه في في المقابل في موقع آخر يقبل أنّ الإدراك الحسي يمكن أن يكون خطوة نحو الفهم: “المظاهر هي مشهد الغيب”، ويأتي هذا من نظريته الخاصة لأنّ الدليل على تحكم عقولنا في أجسادنا، وحقائق التغذية والنمو والثورات المحلية للسماء هي دليل على طريقة عمل العقل الكوني ومبدأ عدم الصيرورة والثورة الكونية العظيمة.

مثل سقراطيين آخرين لا يترك لنا أناكساجوراس أي وصف تفصيلي لكيفية اشتقاق المعرفة من الإدراك من خلال تنقيحات الفكر، بحيث يمكن مقارنة حساب أناكساجوراس بحساب ديموقريطس حيث تكون العلاقة بين الإدراك الحسي والفكر متشابهة وغير مفسرة بالمثل.

تأثير فلسفة أناكساجوراس:

تقارير بلوتارخ تصف بأنّ أناكساجوراس كان الشخص الأكثر ارتباطًا ببيريكليس والذي منحه تلك الكرامة والحكمة أثقل من الغوغائية وعلى العموم رفع قيمة شخصيته ورفعها، كما أنّه ليست هذه هي المزايا الوحيدة التي تمتع بها بريكليس بسبب علاقته بأناكساجوراس، حيث يضيف بلوتارخ بأنّه يبدو أنّ بريكليس تجاوز الخرافات، وذلك الموقف من الدهشة من الوقائع السماوية الذي ينتج عند الجهلة بأسباب الأشياء والمجنون بالآلهة والتدخلات الإلهية، بسبب عدم خبرتهم في هذه المجالات، وتحل الفلسفة الطبيعية محل الخرافات القاحلة التي تقوى لا تهتز مصحوبة بآمال طيبة.

تظهر هذه الطبيعة في دراما يوربيديس الذي غالبًا ما يوصف بأنّه تلميذ أناكساجوراس، وفي الكوميديا لأريستوفانيس الذي يسخر من آراء أناكساجوراس وكذلك شخصية سقراط في الغيوم، فقد كانت نظرية أناكساجوراس عن فيضانات النيل معروفة لهيرودوت (ويمكن الإشارة إليها في إسخيلوس)، وعلى الرغم من القصص التي لم تتفق معهم إلّا أنّ هناك علامات على تأثير أناكساجوراس على ديموقريطس (في حساباته عن الإدراك والمعرفة) وأثرت ادعاءات واكتشافات أناكساجوراس العلمية على جميع المفكرين في عصره.

بمجرد أن أصبحت وجهات نظره حول النيازك والبرد والكسوف معروفة، وتم تضمين هذه الموضوعات دائمًا في الحسابات العلمية للظواهر الفلكية والأرصاد الجوية، وفي الشهادة تم اعتبار مزاج أناكساجوراس نموذجًا للسلوك الجيد، وكان مشهورًا كمنبئ لكل شيء من سقوط النيازك إلى زخات المطر.

تظهر آراء أناكساجوراس بين مسح سقراط لنظريات التفسير الطبيعية السابقة، والأكثر خطورة يبدو أنّ ميليتوس قد نسب ادعاءات أناكساجوراس حول الطبيعة الترابية للقمر والنجوم إلى سقراط في محاكمته، على الرغم من أنّ لائحة الاتهام المزعومة لأناكساجوراس بتهمة المعصية، ربما كانت سياسية بقدر ما كانت علامة على خطره على الدين العام (كانت مهاجمة أناكساجوراس هجومًا غير مباشر على بريكليس)، فقد كان يُنظر إليه على أنّه مهم ومؤثر بما يكفي للتأهل للبعض كعدو للدولة.

من الناحية الفلسفية كانت نظريات أناكساجوراس معروفة ومؤثرة على نطاق واسع، ويعتقد بعض العلماء أنّ مؤلف بردية ديرفيني (الموجودة في شمال اليونان) كان على دراية بنظريات أناكساجوراس، وبمجرد أن قدم العقل كسبب تبعه مفكرون آخرون، وادّعى ديوجين من أبولونيا أنّ الهواء (كعقل وإله) يوجه كل الأشياء، وينتقد زينو من إليا (ربما) وميليسوس (بالتأكيد) نظريته.

إنّ وجهة نظر أناكساجوراس القائلة بأنّ: “كل واحد كان وما هو أكثر وضوحا تلك الأشياء التي يوجد فيها أكثر من غيره” (مبدأ الهيمنة)، يتردد صدى ادعاءات أفلاطون بأنّ الأشياء المعقولة تكتسب شخصياتها وأسمائها من النماذج التي تشارك فيها، حتى أنّ أفلاطون يتبنى لغة أناكساجوراس للمشاركة، ومثل أشكال أناكساجوراس فإنّ الأشكال الأفلاطونية هي (نفسها بذاتها) في كونها تشرح نفسها بنفسها.

على الرغم من نفاد صبر أرسطو من الثغرات الموجودة في حساب أناكساجوراس للعقل، إلّا أنّه يعبر عن إعجابه بإدراكه أنّ العقل له دور يلعبه في توجيه الكون، ويتعامل مع شرح أناكساجوراس للكسوف كنموذج للتفسير العلمي.


شارك المقالة: