فلسفة أنسكومب في مفهوم الإلتزام الأخلاقي

اقرأ في هذا المقال


قبل نشر مقالة (الفلسفة الأخلاقية الحديثة) للفيلسوفه إليزابيث أنسكومب كان النوع الرئيسي للنظرية الأخلاقية بخلاف النفعية التي التزم بها الفلاسفة هو علم الأخلاق الكانطي، والذي يقول في أنقى صوره إنّ بعض الأفعال محظورة أو مسموح بها بغض النظر عن عواقبها.

الالتزام الأخلاقي:

تتساءل أنسكومب عمن أو ماذا يفترض أن يفعل المنع أو التصريح المعني، وتقليديا (كما تراه) كان الجواب هو الله، ولكن العديد من الفلاسفة حتى المتدينين منهم لا يريدون إدخال الإيمان بالله في نظرياتهم، إذن ما الذي يمكن أن تعنيه النظرية المصممة على أنّها مستقلة عن الإيمان بالله، والتي بموجبها بعض الأفعال مسموح بها أو صحيحة أو حتى واجبة والبعض الآخر ممنوع أو خاطئ؟

تعتقد أنسكومب أنّه لا يمكن إلزام المرء نفسه بشكل هادف، والفكرة القائلة بأنّ شيئًا ما مثل المجتمع أو الحكومة يقوم بالسماح هنا ليس هو ما يريده الأشخاص الذين ينظّرون بهذه الطريقة، واستنتاج أنسكومب هو أنّ الحديث عن الالتزام الأخلاقي والواجب الأخلاقي والحس الأخلاقي الخاص للكلمة وما إلى ذلك لا معنى له في الواقع.

هذا لا يعني إسقاط كل الكلام عن الالتزام والباقي، وفي الواقع كتبت أنسكومب أنّه لا ينبغي أن نحاول التخلي عن مثل هذا الحديث، وبهذا بالطبع تعني أنّ محاولة القيام بذلك ستكون فكرة سيئة، ولكنها تعني هنا بالسوء أنّه لن يكون حكيماً أو معقولاً، وإنّها لا تعني كلمة سيئة في بعض المعنى الأخلاقي المزعوم أو الفريد.

يُعتقد أحيانًا أنّ أنسكومب تقول إنّ المؤمنين الدينيين فقط هم الذين يحق لهم التحدث أو التفكير في الالتزام الأخلاقي أو ما يجب على المرء أن يفعله أخلاقياً، وليست هذه هي القضية حيث إنّ ادعاءها هو بالأحرى أنّ الفلاسفة غالبًا ما يستخدمون كلمات مثل يجب أخلاقياً بطريقة لا معنى لها، وإنّها لا تمنع أي شيء، كما إنّها صراحةً لا تمنع استخدام كلمة (يجب)، كما أنّها لن تمنع استخدام الكلمات الواجب أخلاقيًا في بعض المواقف.

على سبيل المثال إذا أخبرك نباتي أنّه لا يجب أن تأكل قطعة من الدجاج فقد يكون من غير الواضح ما إذا كانت تتحدث عن الأخلاق أو عن سلامة الغذاء، وقد تسأل بشكل معقول (من وجهة نظر أنسكومب) عما إذا كانت تقصد أنّه يجب إحساس أخلاقي أو فقط الحس الطبيعي والحصيف.

ما تعترض عليه أنسكومب هو استخدام علماني للمفاهيم الدينية (وليس مجرد كلمات)، فهناك تقليد ديني يتم بموجبه أن يأمر الله بأنواع معينة من الأفعال وأنواع أخرى يحرمها الله، وضمن هذا التقليد للجنس البشري علاقة تاريخية مع الله حيث قُطعت وعود مختلفة ووافقت العهود وما إلى ذلك، لذلك من المنطقي التحدث ضمن هذا التقليد عن الالتزام أو الإلزام بفعل هذا أو ذاك.

ومع ذلك لا معنى للاعتقاد بأنّ المرء ملزم بنفس الطريقة تمامًا إذا تم رفض هذا التقليد أو وضعه بين قوسين أو وضعه جانبًا لأغراض فلسفية، فمن المضلل في أحسن الأحوال أن يقصد أي شخص القيام بالفلسفة بطريقة غير ملزمة دينياً ولكن لا يزال يسأل عن الأفعال المحرمة والخطيئة والمباحة وما إلى ذلك، وتتمثل إحدى مشكلات هذه اللغة في أنّها تشير ضمنًا إلى الإطار الديني ذاته الذي تنكره صراحة الفلاسفة المعنيون الذين يستخدمونها.

فلسفة أنسكومب في مفهوم العدالة:

الشيء الآخر وهو غير دقيق للغاية على سبيل المثال إذا جادل فيلسوف ملحد بأنّ الإجهاض مسموح به، فليس فقط من المحتمل أن نتعرض لاختياراتها للكلمات التي تبدو دينية ولكننا أيضًا لا نعرف ما إذا كانت تعني بالجواز العدل أو من المرجح أن تعزز المنفعة أو العقلانية أو ماذا، فحجة أنسكومب هي أنّه يجب على هؤلاء الفلاسفة بدلاً من ذلك استخدام كلمات مثل عادل، وبهذه الطريقة سيكون لدينا فكرة أفضل بكثير عما يقال.

يوضح دفاع جوديث جارفيس طومسون الشهير عن الإجهاض على سبيل المثال أنّها تتحدث عن عدالة الإجهاض سواء كان ينتهك حقوق الجنين وليس ما إذا كان قاسًا أو غير لائق على سبيل المثال، وهذا هو نوع التوضيح الذي توصي به أنسكومب.

وتضيف أنّه في بعض الأحيان سيتضح على الفور ما إذا كان ما يقال صحيحًا أم خاطئًا إذا استخدمنا مصطلحات أكثر دقة للتقييم الأخلاقي مثل العدل وغير العادل، وما إذا كان الإجهاض عادلاً ليس واضحًا على الفور لكثير من الناس لكن الظلم الناتج عن الإعدام القضائي لمن يعرف أنّهم أبرياء واضح، وهذا هو المثال الذي تستخدمه أنسكومب في أغلب الأحيان، حيث إنّ الاقتراح بأنّ قتل عشرات الآلاف من غير المقاتلين الأبرياء بمن فيهم الأطفال عمداً هو اقتراح غامض.

من الواضح أنّ الإيحاء بأنّ ذلك سيكون عادلاً خاطئ، وقد يكون الاقتراح القائل بأنّه سيكون مفيدًا صحيحًا بشكل واضح، فإذا استخدمنا المصطلحات الأكثر دقة عادلة ومفيدة فيمكننا على الأقل أن نرى أنّ النقاش كان بين الأهمية النسبية للعدالة والمنفعة، وإذا أصررنا على استخدام كلمات مثل الجائز والخطأ فقد نفشل في فهم سبب المشكلة، ومن الواضح إلى حد كبير أنّ أنسكومب تحث الفلاسفة على السعي لتحقيقه.

الحقائق القاسية:

كان رفضها لكل من العواقبية والنظريات الأخلاقية المتمحورة حول الالتزام سببًا رئيسيًا لظهور أخلاق الفضيلة، ومع ذلك يجدر بنا أن نكرر أنّ أنسكومب لا ترفض كل الحديث عن الالتزام الأخلاقي، على سبيل المثال إذا قدمت وعدًا أو وقعت عقدًا فإنّ هذا يجلب معه التزامات معينة، ففي حالة الوعد قد نسمي هذا التزامًا أخلاقيًا لتمييزه عن نوع الالتزام القانوني الذي قد ينشئه العقد، وهذا النوع من الالتزام ليس مطلقًا بالطريقة التي يعتقد بها البعض أنّ الالتزام بعدم ارتكاب جريمة قتل، فقط الشخص الذي قطع وعدًا يكون ملزمًا به من أجل شيء واحد.

من ناحية أخرى يمكن بشكل معقول تجاهل الوعود في ظروف استثنائية، ثالثًا الوعد بحد ذاته ممارسة إنسانية مفيدة ولكنها ليست بالضرورة ممارسة أساسية، حيث تعتقد أنسكومب أنّه فقط مقابل الخلفية أو ضمن سياق هذا النوع من الممارسة فإنّ قول: “أتعهد بأن أفعل (x)” يلزم المتحدث بفعل (x)، وفي المقابل تعتبر القتل محرما على كل الناس في كل الظروف.

يتعلق هذا بالفكرة التي يُساء فهمها بسهولة لما تسميه أنسكومب بالحقائق القاسية، فقد كتبت في مقالها (حول الحقائق الغاشمة): “فيما يتعلق بالعديد من الأوصاف للأحداث أو الحالات التي تم التأكيد على الاحتفاظ بها، يمكننا أن نسأل ما هي الحقائق الغاشمة”، وهذا يعني الحقائق التي تحمل وبموجبها في سياق مناسب يكون وصف كذا وكذا صحيحًا أو خاطئًا، وهي أكثر وحشية من الحقائق المزعومة التي تجيب على هذا الوصف.

لذا فإنّ الحقائق الغاشمة بحكم تعريفها هي دائمًا قاسية بالنسبة إلى وصف ما لحدث أو حالة من الأمور، فالوحشي هنا لا يعني المطلق مقابل النسبي، علاوة على ذلك في حين أنّ الحقائق الغاشمة تجعل الأوصاف صحيحة فإنّها تفعل ذلك فقط مع تساوي الأشياء الأخرى، ويمكن أن تفشل الأشياء الأخرى في أن تكون متساوية بطرق لا حصر لها وغير متوقعة، وبالتالي لا يمكن أبدًا القول بأنّ الالتزامات من هذا النوع مطلقة بمعنى الوجود بدون استثناء.

ومع ذلك في الظروف العادية إذا كنت قد وعدت بفعل شيء ما فأنت ملزم حقًا بفعله، فهذه الالتزامات حقيقية ومهمة على الرغم من أنّ القواعد قد تكون مختلفة وعلى الرغم من أنّه قد يتم تجاهلها في ظروف معينة، وبعض الممارسات لها قواعد وهذه القواعد تلزمنا بالتصرف بطرق معينة ولكن:

1- يمكن إجراء استثناءات داخل الممارسات نفسها.

2- لا يوجد التزام (على الرغم من أنّه قد يكون هناك سبب وجيه) للانخراط في هذه الممارسات في المقام الأول، وبهذا المعنى فإنّ الالتزام بالوفاء بوعد ليس التزامًا مطلقًا.

هذا لا يعني مع ذلك أنّه لا توجد أشياء مطلقة في الأخلاق، فبالتأكيد تعتقد أنسكومب أنّ القتل غير مبرر أبدًا، وإذا كان هناك التزام بعدم ارتكاب جريمة قتل فهذا لا ينبع من اختيارنا الانخراط في بعض الممارسات البشرية التي تمنعه، وقد تقول أنسكومب إنّه لا يجب أن نقتل لأنّ الله حرم ذلك، أو قد تعتبره مستبعدًا باعتبارات العدالة، أو بإدراك صوفي لقيمة الحياة البشرية.

كتبت في كتابها (القتل والأخلاق من القتل الرحيم) أنّ: “التحريم على القتل أساسي لدرجة أنّه من الصعب الإجابة على السؤال عن سبب كون القتل غير مشروع في جوهره”، ومع ذلك فإنّ استخدامها لكلمة حظر يشير إلى أنّها تفكر في القتل على أنّه أمر يحرمه الله، وبالنظر إلى أفكارها حول مفهوم الالتزام الأخلاقي بعد كل شيء يمكننا بالتأكيد أن نسأل من الذي قد يمنعه؟ وسواء كانت هذه التكهنات حول معناها صحيحًا أم لا فمن الواضح أنّها تعتبر القتل العمد للأبرياء أمرًا محظورًا، وهذا وثيق الصلة بتفكيرها في كل من أخلاقيات الحرب والأخلاق الجنسية.


شارك المقالة: