فلسفة أوستن بين اللغة والحقيقة

اقرأ في هذا المقال


تنتشر آراء الفيلسوف جون لانجشو أوستن حول الحقيقة في جميع أنحاء عمله، ولكن أكثر نقاشاته وضوحًا للموضوع موجودة في مقالة الحقيقة (Truth) في عام 1950.

ادعاءات أوستن حول الحقيقة:

من بين الادعاءات المميزة التي يقدمها أوستن عن الحقيقة ما يلي:

  • المسند (صحيح) له وظيفة وصفية، فهو يعمل على توصيف الحصول على علاقة بين البيانات والحقائق.
  • الحقائق التي تظهر في تحديد ما إذا كان البيان صحيحًا أم لا هي تفاصيل، على سبيل المثال الأشياء والميزات والأحداث والحالات.
  •  إنّ العلاقة بين الأقوال والحقائق التي تؤكد صحة البيانات أو زيفها هي نفسها مكفولة بالعلاقات بين الجمل وأنواع الحقائق، وبين حلقات الإفصاح والحقائق المعينة.
  • يشارك الحكم البشري في تحديد ما إذا كانت حقيقة معينة تصنع بيانًا، ويكون الحكم بطريقة حساسة للمقاصد والأغراض التي يتم بها تقديم البيان، ولهذا السبب الحقيقة ليست علاقة بسيطة بين أنواع الجمل (بالنظر إلى معانيها) وحقائق معينة، بحيث تكون زوج من العبارات باستخدام نفس الجملة فيما يتعلق بالوقائع نفسها ولكن في مناسبات مختلفة وذلك نظرًا لمقاصد وأغراض مختلفة قد تختلف في قيمة الحقيقة.
  • على الرغم من أنّ نقطة (1) يبدو فيها أوستن أنّه يؤيد شكلاً من أشكال نظرية الانكماش حول الحقيقة، حيث وجهة نظر تكون الحقيقة فيها فكرة ضعيفة أو غير تفسيرية، ووفقًا لهذا الشكل من الانكماش فإنّ القول بأنّ العبارة صحيحة هي مجرد طريقة للقول أنّ العبارة تحتوي على واحدة أو أخرى من مجموعة من الصفات الإيجابية الأكثر تحديدًا، على سبيل المثال أنّها مرضية وصحيحة وعادلة وما إلى ذلك.

إنّ بالنقاط (1-3) يستجيب فيها أوستن عام 1950 أ ظاهريًا لاقتراح في الفيلسوف بيتر ستراوسون عام 1949 والذي بموجبه تكون وظيفة المسند (صحيح) هو تسهيل أداء أعمال التأكيد أو الاتفاق وليس وصف الأشياء على أنّها تمتلك خاصية حقيقة، وباختصار ادعى ستراوسون أنّ (صحيح) لها وظيفة أداء أكثر منها وصفية.

واتهم خصومه بارتكاب بالمغالطة الوصفية: وهي المغالطة المزعومة في معالجة التعبيرات أو جوانب استخدام التعبيرات، التي تخدم حقًا أغراضًا أدائية على أنّها (فقط) لها غرض وصفي، فقد كان أحد أهداف أوستن هو الدفاع عن الرأي القائل بأنّ المسند (صحيح) له وظيفة وصفية (ربما بالإضافة إلى وجود وظيفة أدائية واحدة أو أكثر)، ولتحقيق هذا الهدف قدم أوستن أيضًا عددًا من المقترحات المميزة حول الوظيفة الوصفية لمسند الحقيقة.

فلسفة أوستن والحقيقة:

دعونا ننتقل إذن إلى جوهر تفسير أوستن للحقيقة، فيقدم أوستن روايته عن الحقيقة كحساب للحقيقة للبيانات، ومع ذلك فإنّ كلمة (البيان) هي على الأقل تعني طريقتان غامضتان، حيث تغطي كلتا الحلقتين التاريخيتين اللتين تم فيهما ذكر شيء ما أي أنّها أقوال، وأيضًا الأشياء أو الافتراضات الواردة فيها أي أنّها ما هو معلن أو مذكور، ويبدو أنّ أوستن ليس حريصًا بشكل خاص بشأن التمييز، ولكن من الممكن إعادة بناء الكثير مما يقوله بطريقة تحترمه.

يبدو أنّ اهتمام أوستن الأساسي هو حقيقة الأقوال، ويكتب عن (بيان) أنّ له ميزة الإشارة بوضوح إلى الاستخدام التاريخي للجملة من قبل المنطوق، ومع ذلك لا يُقال عادةً أنّ البيانات صحيحة أو خاطئة، إلّا بشكل اشتقاقي حيث أنّ ما ورد فيها صحيح أو خطأ، وبدلاً من ذلك يتم تقييم الإفصاحات على أنّها على سبيل المثال صحيحة أو غير صحيحة ومناسبة أو غير مناسبة وما إلى ذلك.

ومع ذلك فمن المعقول أنّ التصريح بشكل صحيح يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإدلاء ببيان صحيح، ويمكن أن يُفهم حساب أوستن على أنّه سرد للظروف التي تكون فيها التمثيلات صحيحة بحيث يكون ما ورد فيها صحيحًا.

فلسفة أوستن وتضليل الحقيقة:

المصدران الواضحان للتضليل المحتمل في الصيغة التي يؤيدها أوستن هنا هما:

  •  جاذبيتها للمراسلات.
  • جاذبيتها للحقائق.

يحاول أوستن منع تضليلنا من خلال شرح كيفية فهم هذين النداءين، وينصب تركيز أوستن في (الحقيقة) بشكل أساسي على طبيعة المراسلات، وإنّه يتعامل بشكل كامل مع الحقائق في عمله الفلسفي (غير العادل للحقائق-Unfair to Facts).

عند تقديم سرد للمراسلات يستأنف أوستن نوعين من الاتفاقيات:

1- الاصطلاحات الوصفية: حيث تربط هذه الجمل بأنواع المواقف والأشياء والأحداث وما إلى ذلك في العالم.

2- اتفاقيات توضيحية: وترتبط هذه العبارات (البيانات) بمواقف تاريخية (خاصة وملموسة) وأشياء وأحداث وغيرها في العالم.

تربط الاصطلاحات الوصفية الجمل (بأنواع) الطرق لتكون الأشياء، أي طرق المواقف والأشياء والأحداث وما إلى ذلك، على سبيل المثال ترتبط الجملة (القطة على الحصيرة) بنوع من الطريقة التي تكون بها الأشياء حيث تكون القطة على السجادة.

وقد تكون مجموعة متنوعة من المواقف التاريخية المختلفة من هذا النوع على سبيل المثال قد تتضمن حالة تاريخية واحدة من هذا النوع الشعارات (قطة دريدا)، في حين أنّ موقفًا تاريخيًا مختلفًا من نفس النوع قد يتضمن لا شيء (قطة سارتر)، وبالمثل فإنّ عمليات الاقتران التي حدثت في أوقات مختلفة ستكون مواقف أو أحداث تاريخية مختلفة ومع ذلك قد تكون من نفس النوع.

على النقيض من ذلك تربط الاتفاقيات التوضيحية ببيانات معينة -هي نفسها أحداث تاريخية- مع بعض المواقف التاريخية التي يمكن الوصول إليها والأشياء والأحداث وما إلى ذلك، مثلًا هناك حالتان يمكن الوصول إليهما أحدهما من النوع قطة على حصيرة والآخر من النوع كلب على مشمع.

فلا تحدد الاصطلاحات الوصفية التي تحكم الجملة الإنجليزية (القطة على حصيرة)، ولا يمكنها تحديد أي من الحالتين اللتين يمكن الوصول إليهما يهدف المتحدث إلى التحدث عنه في مناسبة معينة، ومن أجل تحقيق ذلك يجب على المتحدث أن يجد طريقة لإظهار أنّ هدفه هو تحديد على سبيل المثال ، وضع الكلب على مشمع، قد يحققون ذلك مثلًا باستخدامهم في مناسبة معينة من الزمن المضارع أو بالإشارة…إلخ.

تم تطوير وجهات نظر أوستن حول الحقائق بشكل كامل إلى حد ما في عمله غير عادل للحقائق، وهناك يوضح أوستن:

  •  أنّه يستخدم (الحقائق) مع سابقة اشتقاقية للتحدث عن التفاصيل.
  • يرسم أوستن وجهة نظر للحديث عن الحقائق الافتراضية التي يتم استخدامها كطريقة للدلالة بشكل غير مباشر على التفاصيل كعناصر تجعل الافتراضات المحددة صحيحة.

ومع ذلك يمكن فصل تفسير أوستن الأساسي للحقيقة في الغالب عن آرائه حول الحقائق وحديث الحقائق.

فلسفة أوستن في التصنيف الأنواع القياسية:

من وجهة نظر أوستن أنّ الحالات لا تنص في حد ذاتها على أنّها تنتمي إلى نوع (من المثيلات القياسية) أو آخر، ويبدو أنّ عناصر من هذا النوع تتطلب صحة هذا التصنيف أو ذاك، حيث إنّ دور الحكم البشري أو القرار في التوسط في تصنيف التفاصيل يترك مفتوحًا، لأنّ التصنيف الصحيح للنوع قد يختلف اعتمادًا على السمات المحددة لمناسبة تصنيفها وقد يكون مثلًا أنّه لأغراض معينة.

في حالة جملة الوردة حمراء فإنّ الحالة التاريخية التي تنطوي على وردة تشبه إلى حد كبير المواقف القياسية التي تنطوي على أشياء حمراء بحيث تضمن تشابه التصنيف، في حين أنّ تشابهها لأغراض مختلفة يفوق تشابهها مع الحالات القياسية.

علاوة على ذلك فإنّ ما يتم احتسابه كحالات قياسية قد يختلف باختلاف الأغراض المنطبقة في محاولة التصنيف، وقد يتحول عندما يتم احتساب الحالات الجديدة كنوع معين، ويمكن أن تختلف الطرق الدقيقة التي تعتمد بها تصريحاتنا على صحتها أو عدم صحتها على الحقائق باختلاف السمات المحددة للمناسبة، لا سيما مع الاختلاف في مقاصد وأغراض المشاركين في المحادثة.

كما أوضح أوستن بإنّ الظروف هي التي تحكم الحقيقة والباطل في ماهية الجملة، ويمكن أن تكون الظروف مهمة بطرق متنوعة، ليس فقط من خلال توفير مجموعة مناسبة من الحقائق أو الفشل في توفيرها:

في فلسفة أوستن لجملة: “اللورد راجلان انتصر في معركة ألما” من المهم هنا فصل سؤالين:

  •  هل جملة صحيحة؟
  • هل ما ورد في استخدام هذه الجملة في مناسبة معينة صحيحًا؟

من أجل الحصول على إجابة إيجابية للسؤال الأول يجب أن يكون كل استخدام للجملة أو أن يصدر في بيان صحيحًا.

ولكن على الرغم من أنّه يمكن استخدام الجملة في كتاب مدرسي للإدلاء ببيان صحيح، إلّا أنّه يمكن استخدامها أيضًا في عمل بحث تاريخي أو لدعم زخرفة راجلان في الإدلاء ببيان خاطئ، ومن ثم فإنّ الجملة لا تأخذ نفس قيمة الحقيقة في كل مناسبة، أي أنّ الجملة في حد ذاتها ليست صحيحة ولا خاطئة.

على النقيض من ذلك لا يوجد سبب لإنكار صحة الأشياء الواردة في استخدام الجملة في المناسبات، على وجه الخصوص لا يوجد سبب لإنكار صحة ما جاء في الكتاب المدرسي من الجملة، لذلك يمكن إعطاء السؤال الثاني إجابة إيجابية طالما أننا على استعداد للسماح باستخدام جملة لإصدار عبارات مختلفة في مناسبات مختلفة.


شارك المقالة: