يجادل مؤرخو الفلسفة أحيانًا بأنّ إعادة اكتشاف هنري إتيان لسكستوس في عام 1562 بدأ حقبة من نظرية المعرفة، ويُنظر هنا إلى الانخراط الحديث المبكر مع التشكيك على أنّه تحول إلى الحجج الموجودة في سكستوس، على وجه الخصوص قد تظهر بداية تأملات ديكارت نوعًا من الروح السقراطية، بمعنى الالتزام بالتشكيك في معتقدات كل فرد، ومع ذلك يعمل الفلاسفة الحديثون الأوائل ضمن تقليد مؤطر لاهوتيًا يبدأ بشكل مهم مع القديس أوغسطين.
أوغسطين والفلسفة الشكية القديمة:
تألف جزء كبير من التعليم المبكر لأوغسطين في دراسة كتابات شيشرون، وهكذا كان على دراية وثيقة بالشكوك الأكاديمية (كان شيشرون نوعًا واحدًا من المتشككين الأكاديميين)، حيث يرى أوغسطين قوة الاستراتيجيات المتشككة القديمة، على الرغم من أنّه لا يصبح متشككًا إلّا أنّه يدمج الحركات المتشككة بشكل مميز في فكره، وهذا له تأثير طويل الأمد على تاريخ اللاهوت والعلوم، على سبيل المثال يستطيع غاليليو غاليلي الاستشهاد بأوغسطين عندما يدافع عن نفسه ضد تهمة أنّ فيزياءه تتعارض مع الكتاب المقدس (في رسالة إلى الدوقة الكبرى في دريك 1957).
يقدم أوغسطين حججًا مفادها أنّه يجب علينا أن نتفتح الذهن، ومن المرجح أن تتطور نظرياتنا الفيزيائية وتفسيراتنا للكتاب المقدس، حيث تبرز هذه الفكرة بشكل مهم في البيرونية، كما تخبرنا التجربة السابقة أنّه في كل قضية توصل شخص ما في النهاية إلى حجة جديدة، ووفقًا لذلك حتى لو لم يتمكن المشككون من العثور على اعتراض على ادعاء معين في الوقت الحالي فإنّهم يتوقعون أنّه في المستقبل سيتم صياغة وجهة نظر متضاربة.
ومع ذلك فإنّ آثار الشك هذه مدمجة في فلسفة غير متشككة في نهاية المطاف، ففي كونترا أكاديميون يعترف أوغسطين بالسمات الأساسية للشك القديم وهي أنّه التزام بالتحقيق المستمر، ولكن السؤال الذي يعتبره أوغسطين حيويًا إذن هو ما إذا كانت الحياة المكرسة للتحقيق يمكن أن تكون مقنعة إذا لم يكن هناك أي احتمال للوصول إلى الحقيقة على الإطلاق، وكفلسفة استقصائية تقدم الشكوك مساهمة دائمة في الأخلاق وتستمر كما كانت في إرث سقراطي.
أوغسطين والفلسفة الشكيّة الحديثة:
ينشئ أوغسطين الإطار الذي سيصبح سمة من سمات المناقشات الحديثة المبكرة من حيث:
1- أولاً يتم استكشاف الحجج المتشككة في عمله من أجل دحضها.
2- ثانيًا المسألة الأساسية هي ما إذا كانت لدينا المعرفة، وليس ما إذا كان ينبغي أن نحمل أي شيء ليكون صحيحًا، ففي أوغسطين خلفية الاهتمام كثيرًا بالمعرفة هي السؤال الملح حول ما إذا كان بإمكاننا معرفة الله، أي ما إذا كان بإمكاننا معرفة أنّه موجود وما هي خصائصه، وقد يكون هذا أيضًا سبب اكتساب معرفة الشهادة أهمية خاصة، كما يمكن اعتبار الكتاب المقدس أو أجزاء منه شهادة عن الله وبالتالي كطريقة ممكنة للوصول إلى معرفة الله.
3- ثالثًا في عملية السؤال عما إذا كان بإمكاننا الحصول على معرفة عن الله من المنطقي التمييز بين أنواع المعرفة (الحسية والعقلانية والشهادة وما إلى ذلك)، وإذا كنا نعرف الله فإننا نفعل ذلك عن طريق أحد أنواع المعرفة، وتصبح هذه سمة قياسية لمناقشات التشكيك، كما يتصفح الفلاسفة أنواع المعرفة المختلفة التي يمكن تصورها ويفحصونها بدورهم.
4- رابعًا تصور أوغسطين ما يسميه (المعرفة الداخلية)، حيث إنّه يتصور سيناريو متشككًا، بحيث افترض أننا لا نملك معرفة حسية ولا معرفة عقلانية ولا معرفة بالشهادة، وما زلنا نعلم أننا نفكر ونحب ونحكم ونعيش ونحيا.
في عمله الفلسفي في مدينة الله يستخدم أوغسطين عبارته المعروفة: “si enim valor، sum” (حتى لو أخطأت، فأنا موجود)، أي يقترح أوغسطين أنّ لدينا معرفة بأفعالنا العقلية، ومع ذلك لا يعتبر أوغسطين أنّ هذه القطع من المعرفة أساسية، بينما يشير إليها عندما يناقش تحديات الشك الأكاديمي فإنّه لا يبني عليها بشكل منهجي في دحض الشكوك حول الإدراك الحسي والمعرفة العقلانية ومعرفة الشهادة، بل إنّه يدحض الشك بالقول إنّ الله خلقنا والأشياء التي نعرفها، وأراد الله أن نعرف هذه الأشياء.
في نظرية المعرفة اللاحقة تصبح فكرة التحول إلى عقل الفرد والوصول المتعمق إلى الأفعال العقلية للفرد فكرة علمانية، وأوغسطين هو شخصية انتقالية في فلسفة العقل وبالتالي يعيد تصور الشك، ومن خلال التركيز على الفجوة بين ما هو موجود في العقل والعالم الخارجي، فإنّه كما كان يدعو إلى التشكك في العالم الخارجي، ولكن بالنسبة لأوغسطين هو جزء من الطريق إلى الله أي يتحول العقل إلى نفسه ومن هناك يتحرك أكثر نحو الله.
بجانب أوغسطين يلعب الغزالي دورًا رئيسيًا في إعادة تصور الأسئلة المتعلقة بالشكوك، ففي المنقذ من الخطأ يصف الغزالي حرفياً الله بأنّه المنقذ من الخطأ، ومثل أوغسطين من قبل وديكارت من بعده ينتقل الغزالي عبر كليات معرفية مختلفة بهل الحواس أو العقل تسمح لنا باكتساب المعرفة؟ كما تم تأطير هذه الأسئلة من خلال البحث عن معرفة الله.
وبينما يعتقد أوغسطين أنّ معرفة الله تأتي من خلال الجمع بين طلب الله من جهة ونعمة الله من جهة أخرى، يعتقد الغزالي أنّها تأتي من خلال التدريبات الروحية، ومع ذلك بمجرد ضمان الثقة بالله يتم استعادة الثقة في الطرق الأكثر شيوعًا لاكتساب المعرفة من حيث الإدراك الحسي والتفكير المنطقي وما إلى ذلك.
أحد الاختلافات الرئيسية بين الشكوكية القديمة من ناحية والشك القروسطي والديكارتي من ناحية أخرى هو أنّ الشكوكية القديمة لم يتم تأطيرها من خلال الاهتمامات اللاهوتية، ومن الملاحظ أنّه في الشك الديكارتي لا يتم استدعاء الله فقط عندما يتعلق الأمر بدحض الشك، والأهم من ذلك أنّ المشاكل المتشككة تنشأ بطريقة تعتمد على الله كخالق، ويُنظر إلى كلياتنا المعرفية على أنّها كليات مخلوقة وينظر إلى العالم على أنّه عالم مخلوق.
يتم صياغة نوع من شكوك أعضاء هيئة التدريس الذي يسأل عما إذا كانت كلياتنا المعرفية قد بُنيت بحيث تكون خاطئة، وتنفتح فجوة محتملة بين عقولنا والعالم، وربما خلقنا الله بطريقة تجعلنا مخطئين جوهريًا بشأن كل شيء (أو كما ورد في النسخ العلمانية اللاحقة يختبر عالم مجنون على دماغ في وعاء).
هذه خطوات مهمة بعيدًا عن التأويل القديم غير اللاهوتي للشك، وإنّ المقدمات اللاهوتية للشكوك الحديثة المبكرة ليست غريبة فقط على المناقشات القديمة، وسيُنظر إليهم على أنّهم مضللون، فمن وجهة النظر الهلنستية اللاهوت جزء من الفيزياء، وإنّ وصف الله هو جزء من حساب للعالم الطبيعي (على هذا النحو لا يمكن التعرف عليه على أنّه علم اللاهوت من وجهة نظر اللاهوتيات اللاحقة)، والبشر وملكاتهم المعرفية هي أجزاء طبيعية من عالم طبيعي، وإنّها أجزاء عضوية ووظيفية مترابطة مع الأجزاء الأخرى من الكل الكبير الذي هو الكون.
كما أنّ هناك فجوة بين العقل والعالم (من النوع المتصور في التقليد الديكارتي) لا يمكن تصورها، وكل (عقل) أي الروح العقلانية هو جزء مادي متكامل من العالم المادي، ومثل جزء من كائن حي معقد لم يكن ليكون موجودًا لولا العلاقات المتبادلة التي تربطه بالأجزاء الأخرى، وإنّ الحساب الفسيولوجي للعقل يجعل الانقسام الصارخ بين العقل والعالم الذي يظهر في التشكك الحديث المبكر أمرًا لا يمكن تصوره.