فلسفة الحقيقة والعقل

اقرأ في هذا المقال


الحقيقة لدى الفلاسفة اليونانيين:

يرى السفسطائيين أن معيار الحقيقة هو الإحساس أي أنّ المعرفة نتوصل إليها عن طريق الحواس فقط، وهنا يجيب بيلاطس على سؤاله “ما الحقيقة؟” بكل بساطه بأن الحقيقة هي ما نتذوقه ونراه ونسمعه ونشتّمه ونلمسه. وهذا ما لم يرق لأفلاطون ويقنعه، فهنا يرى أفلاطون بأن إذا كانت هذه هي الحقيقة فليس هنالك حقيقة، وقد دعم فكرته وفلسفته لنقد تعريف الحقيقة لدى بيلاطس، بأنّ الجميع لديه القدرة على التذوق واللمس والشم والرؤية والسمع، وبذلك فإنّ القرد يستطيع الوصول إلى الحقيقة، وبذلك يصبح القرد مقياس للحقيقة كما الحكيم على حد سواء ولا يمكن التفريق بينهما.

لقد كان أفلاطون متيقن من أنّ الحقيقة تأتي من العقل وتستقر هناك، فهو يرى بالعقل كالسياسيين الذين يديرون الشعب وينظمون أمور حياتهم ويرتبون الفوضى التي تحيط بهم. وتوافق أرسطو مع أفلاطون حيث جعل لأول مرة دراسة منفصلة عن المنطق، وذلك سعياً منه لوضع القوانيين للعقل، فللحكم على أمر بأنه صادق لا بد من أن تكون النتيجة قابلة للقياس، وكمثال على ذلك: الإنسان حيوان عاقل، وسقراط إنسان، إذن سقراط حيوان عاقل.

فأنكر فيرون هذه القاعدة، وفيرون هو فيلسوف يوناني من مذهب الشكاك sceptics الذين يعتنقون فكرة أنه لا يمكن الوصول إلى معرفة الحقيقة، لذلك قدّم شكه في قاعدة أرسطو بأنّ المقدمة الكبرى لا يمكن أن تكون صادقة إلّا اذا جاءت النتيجة صادقة مقدماً، وكمثال أن الإنسان حيوان عاقل ما هي المصادر التي تثبت بأنّ الإنسان حيوان عاقل.
وبناءً عليه لا يمكن الإستنتاج بالوصول إلى أنّ سقراط حيوان عاقل، فبوجهة نظره أنّ العقل دائماً غير يقيني، ليتوصل في النهاية أنّه لا شيء يقيني، ونتيجة لفكره ومذهبه الذي ينتمي إليه لم يحزن عليه تلاميذه عندما توفي بالرغم من محبتهم له وذلك لعدم يقينهم وثقتهم بأنه توفي.

فعاد أبيقور الى تعريف الحقيقة لدى السفسطائيين والثقة بالحواس، ثم أنكرها المذهب الشكاك حيث قالوا بأننا نرى الشمس صغيرة بحجم حبة اليقطين، والنجوم كالحبوب المتناثرة في صفحة السماء، وهذا ما يتنافى بين الحقيقة وما تدركه حواسنا.

الحقيقة لدى فلسفة العصر الوسيط:

بعدما انتهت حقبة الفكر الفلسفي اليوناني والروماني جاءت الفلسفة في أوروبا للمسيحية والكنيسة، ففي هذه الفترة انتهت لعبة الحواس للوصول الى المعرفة، فعرّفو الحقيقة بأنها مطابقة الفكر للأشياء، واتّبعو أفلاطون وأرسطو في تمجيدهم للعقل، وأن التفكير القياسي هو أفضل تفكير لإستخلاص نظام متماسك للعالم.

إلّا أنّ ديكارت طلب من كل فيلسوف أن يطرح شهادة للحواس، بحيث لا يقبل شيئاً على أنه يقيني إلّا الفكر الواضح، فهو يرى أن المعاني حقائق أعظم من الأصوات والمرئيات، فهذه الأشياء المجسدة ظهرت إلى الوجود ثم اختفت، أما الأنواع او الكليات فإنها لا تموت، فللإنسان أكثر حقيقة من هذا الإنسان أو ذاك، والجمال أكثر حقيقة من هذه الوردة أو تلك.

فعادت فلسفة الحواس الى عرش ديكارت وذلك بوجود جاليليو في العلم بمضاعفة العالم الفلكي الحواس بالآلات، وأيضاً بوجود بيكون في الفلسفة بمضاعفته الحواس في أدب فلسفته العقل بالملاحظة، فساق إلينا بيكون أشد الإستدلالات قداسة إلى محكمة الإستقراء. فلآلات توسع دائرة الحقيقة وتضيف إليها الدقة، والمجهر وأشعة إكس ما هي إلّا أدوات لتأكيد الحقيقة لحاسة البصر، أما الهاتف والراديو هي أدوات جاءت لتأكيد الحقيقة لحاسة السمع.

الإحساس الباطن:

الحاسة الباطنة أي شعورنا الداخلي لحياتنا الخاصة وأنفسنا، فهو شعور صادق ومباشر بهذه الحياة وهذه النفس، فأعضاء الإنسان الحسية التي تتصل إتصالاً مختلفاً بالعالم الخارجي تصل الى الخبر والحقيقة، فعلى الرغم من براعتنا في خداع أنفسنا، فليس هناك شيء يفضّل معرفتنا بأنفسنا ذاتها.

هل الإحساس يقين ثابت؟

من الجدير بالذكر بأن الإحساس يمكن أن يخطىء في الوصول الى اليقين أي الحقيقة، فقد ذكر هيوم بأن الحواس لا تكشف عن السببية الغامضة بل فقد تبيّن لنا التتابع الذي حدث، فلا يمكن اليقين تماماً بأن “ب” ستأتي دائماً بعد “أ” وذلك لأن “ب” كانت دائماً تتبع “أ”، فالإحساس لا يضمن أي لحظة من المستقبل، فالعالم فيه من الإختلاف والتغير ما تجعل الحقائق التي نمتلكها على الدوام ذات جانب واحد وناقصة، فليست هناك أمور مطلقة بل أمور نسبية، ولا بد من التعلم مسايرة الأمور النسبية.

أين العقل من الحقيقة؟

ينسق الإحساسات إلى المعاني، والمعاني إلى المعرفة، والمعرفة إلى الحكمة، والغايات إلى شخصية الفرد، والأفراد إلى الجماعة، والجماعات إلى السلام، أي أن دور العقل ثانوي في الوصول إلى الحقيقة وليس أساسي ولكن لا بد من وجوده فبدونه لا تتم العملية، فهو يرتب الفوضى في الحواس المختلفة وما بينها من تناقض في نتيجة موحدة ومنسّقة، تكون تحت بند التحقيق والتأييد أو الرفض وذلك بالإحساس المتكرر.

فعندما تختص الحقيقة بأكثر من شخص، تكون إحساساً متماسكاً إجتماعياً، وعندما تختص الحقيقة بأكثر من لحظة وزمان، تكون إحساساً متماسكاً على الدوام، فكل واحد منّا يرى الحقيقة بطريقته وتفسير العقل لديه لما استقبله من الحواس.


شارك المقالة: