فلسفة الفيلسوف بيكون في قوة المعرفة

اقرأ في هذا المقال


“المعرفة قوة” هذا اقتباس من قبل الفيلسوف فرانسيس بيكون في كتابه تأملات مقدس وفلسفة الإنسان خلال عام 1597، والتي تعني أنّ المعرفة أقوى من القوة البدنية ولا يمكن إنجاز أي عمل عظيم بدون المعرفة.

فكرة التقدم:

على الرغم من صعوبة تحديد ولادة فكرة، إلّا أنّ الفكرة الحديثة عن التقدم التكنولوجي أي بمعنى التقدم الثابت والتراكمي التاريخي في المعرفة العلمية التطبيقية، بدأت مع بيكون في تقدم بيكون للتعلم و أصبح واضحًا تمامًا في أعماله اللاحقة.

المعرفة قوة وعندما تتجسد في شكل اختراعات تقنية جديدة واكتشافات ميكانيكية، فإنّها القوة التي تحرك التاريخ، وهذه كانت هي الرؤية الرئيسية لبيكون، ومن نواحٍ عديدة كانت هذه الفكرة هي أعظم اختراعاته الفردية، والأهم من ذلك أنّه تم تصورها والترويج لها في وقت كان فيه معظم المثقفين الإنجليز والأوروبيين يوقرون الإنجازات الأدبية والفلسفية في الماضي، أو يستنكرون العلامات العديدة من التدهور والانحدار الحديث.

في الواقع بينما كان بيكون يبشر بالتقدم ويعلن فجرًا جديدًا شجاعًا للتقدم العلمي، كان العديد من زملائه مقتنعين بأنّ العالم كان في أحسن الأحوال يئن تحت وطأته نحو حالة من الشيخوخة والهرم والظلام في نهاية المطاف، حيث كتب جون دون: “عصرنا حديدي، وصدأ أيضًا”، وهو يفكر في علامات الانحلال العام في قصيدة نُشرت بعد ست سنوات من تقدم بيكون.

قد يكون هذا التاريخ في الواقع تقدميًا أي صعودًا وموجهًا للأمام، وليس كما علم أرسطو مجرد دوري أو كما افترض المتشائمون الثقافيون من هسيود إلى سبنجلر حركة هبوطية أو رجعية، وأصبح بالنسبة لبيكون مقالة الإيمان العلماني الذي طرحه بقوة إنجيلية وإحساس بالإرسالية.

في عمله في التقدم يتم تقديم الفكرة مؤقتًا كنوع من فرضية الأمل، ولكن في أعمال لاحقة مثل الأورغانون الجديد، أصبح مصيرًا موعودًا تقريبًا، أي يصبح تنويريًا وعالمًا أفضل كما يصر بيكون وبه تكمن قوتنا، فهي تتطلب فقط تعاون المواطنين المتعلمين والتطوير النشط للفنون والعلوم.

إعادة تصنيف المعرفة:

في الكتاب الثاني من الكرامة (De Dignitate) وهي نسخته الموسعة من التقدم، يحدد بيكون مخططه لتقسيم جديد للمعرفة الإنسانية إلى ثلاث فئات أساسية وهي:

1- التاريخ.

2- شعر.

3- الفلسفة: التي يربطها على التوالي بكليات العقل الثلاث الأساسية وهي: الذاكرة والخيال والعقل.

على الرغم من أنّ الدافع الدقيق وراء إعادة التصنيف هذا لا يزال غير واضح، إلّا أنّ إحدى نتائجها الرئيسية تبدو واضحة، فهي تعزز الفلسفة بشكل فعال -وخاصة علم بيكون- فوق فرعي المعرفة الآخرين، ففي جوهرها تقوم بتعريف التاريخ على أنّه مجرد تراكم للحقائق الغاشمة، مع تقليل قيمة الفن والأدب الخيالي إلى وضع هامشي أكثر هو التاريخ الزائف.

من الواضح أنّ بيكون كان يعتقد أنّه من أجل حدوث تقدم حقيقي في التعلم، يجب رفع مكانة الفلسفة وخاصة الفلسفة الطبيعية، بينما يجب تقليل مكانة التاريخ والأدب وباختصار الإنسانية، ويحقق مخطط بيكون هذا بشكل فعال من خلال جعل التاريخ مجال الحقيقة أي كل ما حدث نوعًا فرعيًا افتراضيًا من الفلسفة بأنّها مجال الاحتمال الواقعي، أي كل شيء يمكن أن يحدث نظريًا أو فعليًا.

وفي الوقت نفسه يتم وضع الشعر وهو مجال كل ما يمكن تخيله أو تصوره على الجانب باعتباره مجرد وسيلة توضيحية، وفي جوهرها تصبح مجرد وسيلة لإعادة إنشاء مشاهد أو أحداث فعلية من الماضي، كما في مسرحيات التاريخ أو الشعر البطولي، أو لتجسيد الأفكار الجديدة أو الاحتمالات المستقبلية أو تمثيلها بطريقة مسرحية، كما في مثال بيكون المثير للاهتمام عن الشعر المكافئ (New Atlantis).

المعرفة وأورغانون الجديد:

إلى الجزء الثاني من كتابه العظيم أعطى بيكون العنوان أورغانون جديد أو الاتجاهات الحقيقية المتعلقة بتفسير الطبيعة، وتعني الكلمة اليونانية (Organon) أداة أو آلة، حيث شعر بيكون بوضوح أنّه كان يوفر أداة جديدة لتوجيه العقل وتصحيحه في سعيه إلى فهم حقيقي للطبيعة، ويلقي العنوان أيضًا نظرة على أورغانون أرسطو أي مجموعة تتضمن الفئات وتحليلاته السابقة واللاحقة، وبالتالي يقترح أداة جديدة مصممة لتجاوز أو استبدال الأداة القديمة التي لم تعد صالحة للخدمة.

تم توضيح فكرة تجاوز السلطة القديمة بشكل مناسب في مقدمة الكتاب لعام 1620، الذي يحتوي على الأورغانون الجديد من خلال سفينة تبحر بجرأة وراء الأعمدة الأسطورية لهرقل، والتي من المفترض أنّها تمثل نهاية العالم المعروف.

لا يتم تقديم الأورغانون الجديد في شكل أطروحة أو عرض منهجي ولكن كسلسلة من الأمثال، وهي تقنية أتى بيكون لصالحها باعتبارها أقل تشريعًا وعقائديًا وأكثر بروحًا حقيقية للتجربة العلمية والبحث النقدي، وذلك إلى جانب موهبته في الاستعارة والرمز التوضيحي، والذي يجعل الأسلوب الأمثال من الأورغانون الجديد في العديد من الأماكن أكثر أعمال بيكون العلمية والفلسفية قراءةً وأدبًا.

فلسفة بيكون في مذهب الأصنام:

في الكتاب الأول من الأورغانون الجديد يقدم بيكون مذهبه الشهير عن الأصنام، وهي أخطاء مميزة أو ميول طبيعية أو عيوب تكتنف العقل وتمنعه من تحقيق فهم كامل ودقيق للطبيعة، حيث يشير بيكون إلى أنّ التعرف على الأصنام والتصدي لها لا يقل أهمية عن دراسة الطبيعة مثل الاعتراف بالحجج السيئة ودحضها للمنطق.

بالمناسبة يستخدم كلمة صنم من اليونانية (eidolon) والتي تعني صورة أو شبح، وليس بمعنى إله زائف أو إله وثني ولكن بالمعنى المستخدم في الفيزياء الأبيقورية، وبالتالي فإنّ صنم بيكون هو خداع محتمل أو مصدر لسوء الفهم، ولا سيما الذي يحجب أو يخلط بين معرفتنا بالواقع الخارجي، ويحدد بيكون أربع فئات مختلفة من المعبود، وينشأ كل منها من مصدر مختلف، ولكل منها مخاطرة وصعوباته الخاصة:

أصنام القبيلة:

هذه هي نقاط الضعف الطبيعية والميول المشتركة في الطبيعة البشرية، لأنّها فطرية لا يمكن القضاء عليها تمامًا ولكن فقط التعرف عليها والتعويض عنها، وبعض أمثلة بيكون هي:

1- حواسنا: التي هي مملة بطبيعتها ويمكن خداعها بسهولة، وهذا هو السبب في أنّ بيكون يصف الأدوات وطرق التحقيق الصارمة لتصحيحها.

2- ميلنا إلى تمييز: أو حتى فرض نظام في الظواهر أكثر مما هو موجود بالفعل، وكما يشير بيكون نحن قادرون على إيجاد التشابه، حيث يوجد بالفعل تفرد وانتظام حيث توجد عشوائية بالفعل…إلخ.

3- ميلنا نحو التمني: وفقًا لبيكون لدينا ميل طبيعي لقبول وإيمان وحتى إثبات ما نفضل أن يكون صحيحًا.

4- ميلنا إلى التسرع: وذلك في الاستنتاجات وإصدار أحكام مبكرة بدلاً من تراكم الأدلة تدريجيًا وبجهد.

أصنام الكهف:

على عكس أصنام القبيلة المشتركة بين جميع البشر تختلف أصنام الكهف من فرد إلى آخر، وإنّها تنشأ أي ليس من الطبيعة بل من الثقافة، وبالتالي تعكس التشوهات والتحيزات والمعتقدات الغريبة التي نتعرض لها جميعًا بسبب خلفياتنا العائلية المختلفة وتجارب الطفولة والتعليم والتدريب والجنس والدين والاجتماعية… إلخ، وتتضمن الأمثلة ما يلي:

  • ولاء خاص لنظام أو نظرية معينة.
  • تقدير كبير لعدد قليل من السلطات المختارة.
  • عقلية قطع ملفات تعريف الارتباط، أي الميل لتقليل أو حصر الظواهر ضمن شروط تدريبنا الضيق أو الانضباط.

أصنام السوق:

يقول بيكون: “إنّ هذه عوائق أمام التفكير الواضح الذي ينشأ من الجماع وترابط الرجال مع بعضهم البعض”، والمذنب الرئيسي هنا هو اللغة على الرغم من أنّه ليس فقط الكلام الشائع، ولكن أيضًا وربما بشكل خاص الخطابات والمفردات والمصطلحات الخاصة لمختلف المجتمعات والتخصصات الأكاديمية.

ويشير إلى أنّ الأصنام التي تفرضها الكلمات على الفهم نوعان:

1- أسماء لأشياء غير موجودة: على سبيل المثال المجالات البلورية لعلم الكون الأرسطي.

2- أسماء غامضة أو مضللة الأشياء الموجودة: ووفقًا لبيكون الصفات المجردة وشروط القيمة، على سبيل المثال رطب أو مفيد، ويمكن أن تكون مصدرًا معينًا للارتباك.

أصنام المسرح:

مثل أصنام الكهف فإنّ أصنام المسرح مكتسبة ثقافيًا وليس فطريًا، وعلى الرغم من أنّ استعارة المسرح توحي بتقليد مصطنع للحقيقة كما هو الحال في الدراما أو الخيال، فيوضح بيكون أنّ هذه الأصنام مشتقة أساسًا من المخططات الكبرى أو النظم الفلسفية وخاصة من ثلاثة أنواع معينة من الفلسفة:

1- الفلسفة السفسطائية: أي الأنظمة الفلسفية التي تستند فقط إلى عدد قليل من الأمثلة التي تمت ملاحظتها بشكل عرضي أو على عدم وجود دليل تجريبي على الإطلاق، وبالتالي تم بناؤها بشكل أساسي من الحجج والمضاربة المجردة، ويستشهد بيكون بالمدرسة كمثال واضح.

2- الفلسفة التجريبية: أي نظام فلسفي يعتمد في النهاية على فكرة رئيسية واحدة أو على قاعدة بحث ضيقة جدًا، والتي يتم بناؤها بعد ذلك في نموذج لشرح الظواهر من جميع الأنواع، ويستشهد بيكون بمثال ويليام جيلبرت الذي أقنعته تجاربه مع حجر الأساس بأنّ المغناطيسية تعمل كقوة خفية وراء كل الظواهر الأرضية تقريبًا.

3- الفلسفة الخرافية: هذه عبارة بيكون لأي نظام فكري يمزج بين اللاهوت والفلسفة، ويستشهد بفيثاغورس وأفلاطون على أنّهما مذنبين بهذه الممارسة، ولكنه يشير أيضًا بإصبعه إلى الجهود المعاصرة التقية، على غرار جهود الخلقيين اليوم لتأسيس أنظمة للفلسفة الطبيعية في سفر التكوين أو كتاب أيوب.


شارك المقالة: