فلسفة القانون في القرن التاسع عشر

اقرأ في هذا المقال


يعد جيريمي بينثام (1748-1832) أحد أعظم فلاسفة القانون في التقليد الغربي، لكن إرثه غير عادي ولا يزال في الواقع يتطور، ولا يزال أحد الفلاسفة الأكثر صرامة من الناحية التحليلية والبصيرة الذين كتبوا عن طبيعة القانون، لكن الكثير من كتاباته كانت بعد وفاته غير منشورة وكذلك غير مقروءة بالفعل حتى منتصف القرن العشرين، كما قدم القانوي الإنجليزي جون أوستن (1790-1859) نسخة مبسطة للغاية من فلسفته في القانون والتي ساعدت بدورها في وضع جدول أعمال لعمل مهم في القرن العشرين.

جيريمي بنثام:

هناك موضوعان رئيسيان في فكر بنثام يمتدان إلى معظم كتاباته المنشورة وغير المنشورة حول طبيعة القانون:

  1. نقد شامل لنظرية القانون العام حيث كان الموضوع الأول والأقدم هو نقد شامل لا هوادة فيه لنظرية القانون العام والذي في الواقع هو عبارة عن هجوم على فكرة القانون العام نفسه.
  2. الموضوع الثاني هو امتداد ومراجعة لمفهوم هوبز للسيادة وفكرة القانون كنوع من الأوامر.

أولاً اعتقد بينثام أنّ القانون العام الذي يُزعم أنّه يشكل أساس قانون إنجلترا كان مرتبكًا من الناحية النظرية وخطيرًا في الممارسة، وعلى أي حال غير قادر على أن يكون قانونًا بكل معنى الكلمة.

بينثام وفكر وليام بلاكستون:

وكان هدفه الأولي مع هذا الخط الفكري هو وليام بلاكستون Sir William Blackstone الذي حاول في كتابه “التعليقات على قوانين إنجلترا” (1765-1769) تنظيم التاريخ الطويل للقانون العام الإنجليزي واختصاره إلى مجموعة أنيقة من المبادئ الأساسية، حيث كتب بلاكستون مرارًا وتكرارًا عن “حكمة” هذه المبادئ باعتبارها مرتبطة بقبولها الطويل بين الشعب الإنجليزي، وإنّ حقيقة استخدامها الطويل وتأييدها منحتهم الشرعية والقوة الملزمة.

في بداية عمله الأول جزء عن الحكومة (1776) انتقد بنثام بلاكستون وغيره من منظري القانون العام لخلطهم بين الأسئلة حول ماهية القانون وما يجب أن يكون، وادعى أنّ هذا الخطأ كان له تأثير خنق الإصلاح القانوني للتعامل بشكل مناسب مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة بسرعة في أواخر القرن الثامن عشر.

قدم بنثام أيضًا نقدًا للقانون العام بإعتباره المجال الحصري للنخبة المهنية – المحامين والقضاة – حيث غالبًا ما تم استخدام لغة غامضة وتقنية لإبقاء القانون محاطًا بالغموض من وجهة نظر المواطنين العاديين، كل ذلك الاهتمام جاء لإدامة الأسطورة (من وجهة نظر بنثام) القائلة بأنّ المحامين خبراء في “العقل المصطنع” كما طرح كوك Sir Edward Coke لأول مرة.

بينثام وفكر توماس هوبز:

وقد رأى بينثام مع هوبز Thomas Hobbes أنّه ما لم تكن لغة القانون والأساليب المستخدمة لتفسيره متاحة ومفيدة للمواطنين العاديين الذين ينطبق عليهم فإنّ القانون سيظل غير فعال كدليل لسلوكهم، وذهب بنثام إلى أبعد من ذلك وقال إنّ النظام الذي يُزعم أنّ القضاة طوروا فيه عقيدة قانونية على أساس كل حالة على حدة لم يكن أيضًا قادرًا على توجيه سلوك الأشخاص الذين ينطبق عليهم وبالتالي فهو غير مؤهل كقانون.

وقد أطلق على القانون العام بشكل ساخراً “قانون الكلاب“، لأنّه في كل حالة تطبق مبادئه بأثر رجعي وبطريقة جعلت الامتثال في المستقبل مستحيلًا، ومثلما يمكن معاقبة الكلب بأثر رجعي لخرقه قواعد المالك ومع ذلك لا يتم إعطاؤه توجيهًا منطقيًا حول كيفية تجنب العقوبة في المستقبل، وكذلك يفرض القاضي في محكمة القانون العام المسؤولية القانونية على المتقاضين ولكن في الطريقة التي لا تعلن بوضوح مقدمًا عن كيفية تجنب هذه المسؤولية في الحالات المستقبلية.

حقق بنثام أيضًا تقدمًا بشأن مزاعم هوبز حول السيادة والقانون والعلاقة بين الاثنين، ولقد عرّف القانون على أنّه في المقام الأول “مجموعة من الإشارات المعلنة للإرادة التي تصورها أو اعتمدها صاحب السيادة في الدولة” وهكذا تبع هوبز والمنظرين الأوائل في التفكير في القانون على نموذج القيادة.

ومثل هوبز استخدم بنثام مفهوم السيادة لشرح وحدة النظام القانوني وكذلك معايير الصلاحية القانونية لذلك النظام (أي المعايير التي بموجبها تعتبر أي قاعدة أو قاعدة معينة جزءًا من القانون )، والقاعدة المعينة هي قانون نظام معين إذا، وفقط إذا كانت تحمل العلاقة الصحيحة (النشأة أو التبني) لممارسة السلطة التشريعية السيادية.

تم شرح سلطة الحاكم بدوره بالرجوع إلى عادة (أو التصرف) طاعة شعب المجتمع للقوانين الصادرة من هذا المصدر، وكان قد كتب بنثام عن عادة عامة للطاعة والتي كان يقصد بها علاقة تفاعلية ديناميكية بين المواطن والسيادة، والتي تتكون فيها العادة العامة من الامتثال المنتظم من قبل العديد من المواطنين لأوامر صاحب السيادة والتي تكون فيها هذه الطاعة معروفة ومتوقعة بين المواطنين.

وفي هذا الصدد كان بنثام رائدًا للفكرة التي تطورت بشكل كبير في أواخر القرن العشرين، وأنّ القانون يقوم على الأعراف الاجتماعية المعقدة التي تشمل الإجراءات والتوقعات المتبادلة ومعتقدات جزء كافٍ من المجتمع.

جون أوستن:

كان أوستن شخصية غير معروفة نسبيًا خلال فترة عمله كأول أستاذ للقانون في جامعة كلية لندن في 1826-1832، ولكن بعد وفاته أصبح اثنان من أعماله أصبحت نصوص قياسية في تعليم القانون الإنجليزي كما ولعبت أعماله دورًا محوريًا في القرن العشرين للقانون القانوني وفي تطوير الوضعية وفلسفة القانون بشكل عام وهما: مقاطعة تحديد القانون (1832) ومحاضرات حول القانون (1879).

وعلى الرغم من تأثر أوستن بشكل مباشر بكتابات بنثام إلّا أنّه لم يتمكن من الوصول إلّا إلى جزء صغير نسبيًا منها، لذلك لم يكن على دراية كاملة بتعقيد وأصالة آراء بنثام، ووفقًا لذلك غالبًا ما يتم التعامل مع الوضعية القانونية لأوستن على أنّها عرض مبسط وإن كان أنيقًا حيث يمكن الوصول إليه للمبادئ الأساسية لنظرية بنثام، وقد أعلن أوستن بشكل مشهور أنّ “وجود القانون هو شيء واحد، إمّا ميزة أو عيب آخر “، والذي سيصبح شعارًا كثيرًا ما يُستشهد به للوضعيات القانونية.

قال أوستن إنّ القانون هو قيادة السيادة مدعومًا بالتهديد بعقوبة، والأوامر هي بالضرورة وصفات عامة التي تدل على رغبة سيادة القائد بأنّ هذا العمل ينبغي القيام به أو عدم القيام به، ومثل بنثام وصف أوستن صاحب السيادة بأنّه شخص أو مجموعة من الأشخاص الذين يطيعهم عادةً الجزء الأكبر من المجتمع السياسي ولكنهم لا يطيعون أي شخص آخر.

بينما “الطاعة المعتادة” في نظرية أوستن هي فكرة بسيطة نسبيًا مقارنة بنموذج بنثام التفاعلي حيث كل ما تتطلبه هو المراسلات بين ما يأمر به السيادة وما يفعله المجتمع السياسي في الواقع، ومن وجهة نظر أوستن لا يوفر القانون أي قوة تحفيزية فريدة، وبالتالي فإنّ سبب إطاعة المواطنين له ليس مهمًا، ومع ذلك فإنّ نتيجة هذا الرأي هي أنّ التهديد بالعقوبة على الأقل ضروري لتحفيز الناس على الانصياع، وفي أواخر القرن التاسع عشر بدأ العديد من العلماء في تطوير انتقادات لهذا التفسير البسيط والقوي للقانون، على الرغم من أنّ دحض الوضعية في أوستن لم يظهر حتى منتصف القرن العشرين.


شارك المقالة: