فلسفة المصالح وتناقض المنفعة الحدية لجيرمي بنثام

اقرأ في هذا المقال


من المفيد رؤية فلسفة بنثام الأخلاقية في سياق فلسفته السياسية ومحاولته إيجاد نهج عقلاني للقانون والعمل التشريعي، لقد جادل ضد نظرية القانون الطبيعي واعتقد أنّ النظريات الكلاسيكية لأفلاطون وأرسطو بالإضافة إلى مفاهيم مثل الحتمية الفئوية لكانط كانت قديمة جدًا ومربكة ومثيرة للجدل بحيث لا تساعد كثيرًا في معالجة مشاكل المجتمع وبرنامج الإصلاح الاجتماعي، لقد تبنى ما اعتبره نهجًا بسيطًا وعلميًا لمشاكل القانون والأخلاق وأسس منهجه في مبدأ المنفعة.

فلسفة المصالح لجيرمي بنثام:

في حساب هيلفيتيوس (Helvétius) تكمن المصلحة في مركز العلوم الأخلاقية، ولكن بالنسبة إلى بينثام أدرك أنّ المفهوم له معنى فقط، مثل الكيانات الوهمية الأخرى في الأخلاق مثل الرغبة والدافع، وعند إعادة تعريفه من حيث تجنب الآلام واكتساب الملذات، وبشكل عام اتبع آدم سميث في الاعتقاد بأنّ الفرد هو أفضل حكم على مصالحه الخاصة ولكن بساطة هذا الافتراض خادعة.

  • أولاً يتضمن اعتبار الشخص لمصلحته توقعات أو تخمينات عقلية للمستقبل وليس في الواقع المصالح المادية القائمة، ويتضمن ذلك تخيل الفرد لما سيحدث إذا تصرفت بطريقة معينة، وقد تتشكل التوقعات المحددة التي تحضر النظر في إجراء ما من خلال عدد لا يحصى من الاعتبارات الخارجية بالإضافة إلى ميول الوكيل أو العامل وتفضيلاته، وبالنسبة إلى بنثام فإنّ أهم عناصر البيئة الخارجية التي يتخيل فيها الشخص النتائج هي العقوبات والمكافآت المنصوص عليها في القانون وتلك المستمدة من الترتيبات والممارسات التعليمية والأخلاقية المؤسسية الأخرى بما في ذلك العقوبة التي يمارسها الرأي العام.

في هذا المعنى يمكن استخدام القانون والوكالات الأخرى لبناء المصالح من خلال تزويد الأفراد بالدوافع لمتابعة مسارات العمل التي تعود بالفائدة على المجتمع، ويجب على الفرد بعد ذلك أن يدرك بشكل صحيح أين تكمن اهتماماته، حيث يجب أن تتخيل النتائج المتوقعة التي حددها المشرع، والنتيجة هي أنّ نظرة بنثام المادية للألم والملذات كعوامل تحدد الفائدة والتي تميل إلى التبخر لصالح المصالح المكونة من التخوفات والتوقعات المتخيلة (وإن لم تكن خيالية) بشأن المستقبل.

  • ثانيًا أدرك بينثام أنّ شرح الإجراء من حيث الفائدة من المحتمل أن يكون دائريًا، وإذا قصدنا بالتصرف وفقًا للمصلحة والتصرف بأنانية فإنّ عبارة: “يتصرف العملاء وفقًا لمصلحتهم الشخصية هي عبارة خاطئة، وإذا كنا نعني العمل لمتابعة مصلحتنا بالمعنى الأوسع فإنّ العبارة تكون حشوًا”.

في هذا الصدد فإنّ صحة مبدأ التفضيل الذاتي – وهو الافتراض بأنّ المصلحة الذاتية هي الدافع لكل عمل بشري – مشكوك فيها، وأدرك بنثام إمكانية التصرفات الإيثارية وكثيرًا ما أشار إلى عمله الخيري عند التوصية بمخططات لتعزيز الصالح العام، وعلاوة على ذلك في مقدمة في مبادئ الأخلاق والتشريع (IPML) رأى أنّ التعاطف كان مصدرًا بدائيًا وثابتًا للمتعة والعمل، وفي وقت لاحق في علم الأخلاق رفعه إلى قائمة العقوبات الخاصة به كمصدر للألم والمتعة.

ومع ذلك إذا لم تكن كل الإجراءات مدفوعة بالمصلحة الذاتية بالمعنى الضيق أو الصارم للمصطلح فإلى أي مدى يمكن اعتبار مبدأ التفضيل الذاتي دليلاً موثوقًا للمشرع في بناء الدوافع؟، فكانت إجابة بنثام التي ربما تأثرت برؤية ديفيد هيوم للأمر، وهي أنّ مبدأ التفضيل الذاتي هو تعميم سليم، وفي حين أنّه ليس صحيحًا أنّ كل شخص يتصرف دائمًا لمصلحته الذاتية، فمن الأفضل أن يصمم المشرع المؤسسات والقانون كما لو كان هذا في الواقع صحيحًا.

والأفعال الذاتية هي القاعدة حيث الإيثار هو الاستثناء، وكما أوضحه في القانونالدستوري حتى لو كان مبدأ التفضيل الذاتي صالحًا في ما لا يزيد عن الأغلبية المجردة من إجمالي عدد الحالات فإنّه سيكون كافياً لكل غرض عملي في طابع الأساس لجميع الترتيبات السياسية.

  • ثالثًا على الرغم من أنّ الأفراد قد يكونون بشكل عام أفضل القضاة وفقًا لمصالحهم الخاصة، إلّا أنّهم قد لا يحكمون دائمًا بحكمة، وهذا يخلق فصلًا بين تصور مصلحتهم ومصلحتهم الحقيقية، ونظرًا لأنّ المصلحة العامة ليست أكثر من مجموع المصالح الفردية، ويجب أن يكون لدى المشرع الفعال فهم دقيق إلى حد ما لمصالح هؤلاء الأفراد الذين يشكلون المجتمع، وما الذي سيحفزهم للعمل في الطرق المرغوبة (خاصة في القانون الجنائي).

ولكن إذا أدرك الناس مصالحهم بشكل خاطئ فقد يتم تضليل المشرع في تكوين الدافع المناسب، ومن الواضح أنّ المعرفة التي يحتاجها المشرع (من أجل أن تكون فعالة في بناء دوافع مناسبة لتوجيه الإجراءات الفردية) وهي من المصالح الظاهرة للناس، في حين أنّ هدف المشرع هو تعزيز مصالحهم الحقيقية، أي ما سيختارونه كانوا عقلانيين ومطلعين تمامًا.

هذا يعني أنّ تقييم قيمة العناصر المكونة للمصلحة (الآلام والملذات) هو عمل صعب للمشرع بحيث يجب عليه أن يلاحظ بدقة الطرق التي يتصرف بها الناس، واستنتاج الدوافع وراء أفعالهم وتضمين هذه المعرفة في عقوبات القانون، ومع ذلك قد لا تكون هذه الملاحظات للسلوك البشري أيضًا أدلة موثوقة للمصالح الحقيقية للأفراد والتي يجب تحديدها على أسس أخرى، وهذا هو السبب في أنّ بعض النفعيين المعاصرين يركزون على التفضيلات، أي على الرأي المعبر عنه شخصيًا للفرد فيما يتعلق بما تعتقد أنّه سيكون ممتعًا أو مؤلمًا لها.

تناول بنثام الفصل المحتمل بين تصور الوكيل لمصلحته واهتمامه الحقيقي بكتاباته عن القانون غير المباشر والتي وصفها بأنّها خطة سرية لعمليات متصلة وطويلة التنسيق يتم تنفيذها بطريقة خدعة أو حرب صغيرة، والهدف هو إخبار الأفراد بما لا يجب عليهم فعله، ولكن أيضًا لتزويدهم بالدوافع (الآلام والملذات في المستقبل) الكافية لتحويل رغباتهم إلى قنوات مصممة بشكل أفضل لخدمة المصلحة العامة.

ويمكن استخدام مدونات السلوك وغيرها من (أدوات التعليم الأخلاقي) مثل نصوص (التاريخ والسيرة الذاتية والروايات والتأليفات الدرامية) لإبعاد الناس عن الميول التي تضر بأنفسهم وبالآخرين وبعلمهم أن يستمدوا اللذة من الإحسان، وبهذه الطريقة يمكن للحكومة تثقيف مواطنيها لاتخاذ خيارات أكثر فاعلية أو على الأقل توجيههم إلى مسارات أكثر ملاءمة لتحقيق مصالحهم الحقيقية.

فلسفة جيرمي بنثام في تناقص المنفعة الحدية:

اقترح بنثام من حين لآخر أنّه يمكن تقييم الآلام والملذات فيما يتعلق بالدخل أو الثروة، ولكنه كان على دراية بحدود هذا النهج، وفي حين أننا قد نفترض بشكل معقول أنّه من بين شخصين غير متساويين في الثروة فإنّ الأغنى من الاثنين سيكونان أكثر سعادة، ولا يتبع ذلك أنّ إضافة الزيادات إلى ثروة ذلك الشخص ستستمر في جعله أكثر سعادة بنفس النسبة.

من طبيعة الحالة أنّ مقدار الزيادة في السعادة لن يكون كبيرًا مثل الزيادة في الثروة، حيث إنّ إضافة زيادات متساوية من المال ستؤدي في النهاية إلى تقليل السعادة على التوالي، ويعرف الاقتصاديون المعاصرون هذا التحليل بأنّه قانون يطلق عليه بمصطلح تناقص المنفعة الحدية.

إحدى عواقبه العملية بالنسبة لمنفعي مثل بنثام هي أنّه عندما تظهر الخيارات بين إعطاء زيادة إضافية لرجل غني أو لرجل فقير فإنّ المزيد من السعادة سينتج عن منحها للفقراء من الاثنين، وأيضًا يؤكد التحليل لماذا لا يمكن أن يكون المال مقياسًا مباشرًا للفائدة، لأنّ المنفعة التي يمثلها مبلغ معين من المال ستختلف اعتمادًا على الثروة النسبية للشخص الذي يحصل عليها.
وعلاوة على ذلك من الواضح أنّ تناقص المنفعة الحدية هو أيضًا سمة من سمات الزيادات الإضافية للمتعة التي قد يواجهها الشخص بعد نقطة معينة، بحيث لن تضيف الزيادة المتساوية في المتعة بالضرورة إلى مخزون السعادة إذا وصل الشخص إلى نقطة التشبع.

أثر فلسفة بنثام في تناقض المنفعة الحدية لجلب الثروة:

“القناعة ثروة طبيعية والرفاهية فقر مصطنع”.

سقراط

هل تزيد الجودة بالكمية؟ بمجرد تلبية احتياجاتنا الفسيولوجية هل يمكن أن يجلب المزيد من المال المزيد من السعادة؟ إذا كنا بالفعل راضين فلماذا نستهلك أكثر؟ هل يمكننا أن نصبح أكثر رضا؟.

في حين أنّ المستهلكين الأفراد قد لا يكون لديهم مقياس اقتصادي للرضا، فإنّ الاقتصاديين كما تتخيل لديهم مقياس للمستهلكين، والذي يطلق عليه المنفعة، ففي علم الاقتصاد المنفعة الإجمالية هي: “أساسًا مجموع الرضا أو المنفعة التي يكسبها الفرد من استهلاك كمية معينة من السلع أو الخدمات”، وهناك بالطبع مستوى معين من الاستهلاك نشعر فيه بالرضا و تبدأ رغبتنا في الاستهلاك أكثر بالتلاشي، ووفقًا لذلك يتضاءل أيضًا السعر الذي ترغب في دفعه مقابل المزيد من المنتج أو الخدمة، وهذا يلخص قانون تناقص المنفعة الحدية.

“الحرية لا يتم الحصول عليها من خلال التمتع الكامل بما هو مطلوب، ولكن من خلال التحكم في الرغبة”.

ابكتيتوس

نحن البشر يمكن أن نضع أنفسنا في مأزق عندما نخطط مسارًا للحصول على هدف رغبتنا عندما نكون جائعين، وهي نقطة قبل وقت طويل من أن تبدأ منفعتنا في التضاؤل، وعندما ندرك الحاجة إلى الرضا الذي قد يكون أكبر بكثير مما هو مطلوب للحصول على الرضا، بمعنى هل سبق لك أن ذهبت لشراء البقالة على معدة فارغة؟ وهل تذهب إلى بوفيه وتطلب كل ما يمكنك تناوله للحصول على سلطة صغيرة لطيفة أو هل تذهب عندما تكون مستعدًا لتناول ضعف وزنك في الطعام؟ هل تنتظر حتى تشعر بالعطش للشرب؟ يمكنك الحصول على الصورة.

وبينما يمكن للمرء بالتأكيد أن يستشهد ببعض الأمثلة حيث يمكن الاستفادة من الرغبة، فإنّ سلوك الشراء يكون أقل قابلية للتحكم عندما تكون رغبتنا أقوى، ولا يتطلب الأمر إقناعًا كبيرًا لحملنا على شراء ضعف ما نحتاجه حقًا، خاصة في حالة عدم وجود الوعي الذاتي.

يرى الاقتصاديون أنّ المنفعة الحدية المتناقصة تتناقص في رغبة المستهلك في دفع المزيد من المال مقابل نفس الزيادة المتزايدة في وحدات المنتج أو الخدمة، ومع ذلك تكمن المشكلة في أنّ رغبتنا في الدفع والاستهلاك أكثر يجب أن تتوقف عند مستوى مُرضٍ وليس أن تتضاءل فقط، ومما يزيد الأمور سوءًا هي أننا لا نتخذ قرارات بشأن مستقبلنا غالبًا عندما نكون راضين أو راضين بالفعل، وذلك في المقام الأول لأننا لا نشعر بالرضا أو المحتوى! وربما حان الوقت للاستعانة بالفلسفة هنا.

“لا ينبغي لأحد أن يؤخر دراسة الفلسفة عندما يكون صغيراً ولا يتعب منها عند كبر السن”.

أبيقور

كما قد تتخيل فإنّ قانون تناقص المنفعة الحدية يُترجم أيضًا إلى عدم قدرتنا على توقع سعادتنا، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالمال، بقدر ما يعتمد على الثروة من شخصين لديهما ثروات غير متساوية، بحيث يجب أن يعتبر المشرع صاحب أكبر قدر من الثروة على أنّه يتمتع بأكبر قدر من السعادة، لكن مقدار السعادة لن يستمر في الزيادة في أي شيء قريب من نفس نسبة كمية الثروة.

يستمر تأثير الثروة في إنتاج السعادة في التضاؤل​​، حيث تستمر الكمية التي تتجاوز ثروة رجل ما ثروة شخص آخر في الازدياد، وبعبارة أخرى كمية السعادة التي ينتجها جزء من الثروة (كل جزء من بنفس الحجم) سيكون أقل وأقل في كل جسيم، والثانية ستنتج أقل من الأولى والثالثة من الثانية وهكذا، والتي أوضحها جيريمي بنثام في أحد أعماله شظايا بانامونيال (Pannamonial Fragments).

توضح الدراسات الحديثة في التمويل السلوكي النقطة التي مفادها أنّ أغنى الدول ليست هي الأسعد، وعندما يكون لدينا القليل من المال نقول لأنفسنا أنّ المزيد من المال سيجلب لنا المزيد من السعادة، وهذا صحيح إلى حد ما، وإذا كانت حياتك تعتمد على ذلك، أي يحتاج البشر على الأقل إلى الطعام والمأوى والملبس لتلبية احتياجاتهم الفسيولوجية الأساسية والمال هو الوسيلة الأساسية للحصول على هذه الاحتياجات الأساسية.

ومع ذلك فإن النقطة التي يتم فيها تلبية هذه الاحتياجات هي المكان الذي تبدأ فيه منفعتنا في الحصول على المال في التضاؤل، بالرغم من أننا نتجاوز احتياجاتنا الفسيولوجية ونقنع أنفسنا بأنّ الثروة النقدية الأكبر ستلبي احتياجاتنا المتزايدة من السعادة أيضًا.


شارك المقالة: