الجزء الثالث من كتاب الحدث للفيلسوف موريس بلونديل مقسم إلى خمسة أقسام يأخذ مهمة تحديد حل إيجابي لمشكلة الفعل عن طريق توليد وتطبيق (علم العمل) الذي تحدث عنه بلونديل سابقًا، كما يجادل بلونديل بأنّ المرء لا يستطيع حصر ظاهرة الفعل أو العلم الذي سيدرسها في نظام طبيعي بحت، أقله من كل ذلك الخاص بالعلوم الطبيعية التي تم تطويرها في الحداثة.
تحليل الإحساس:
في القسم الأول بدءًا من تحليل الإحساس فإنّ عدم قدرة العلوم الطبيعية على التعامل بفعالية مع الإحساس كما هو محسوس بالفعل، أي شراء موضوع وعدم التعامل معه على أنّه مجرد حقيقة موضوعية، ويقود بلونديل إلى التمييز بين اثنين مجالات مختلفة ولكن ذاتية التعزيز من العلم أي العلوم الاستنتاجية والعلوم الإيجابية أو التجريبية.
في كلا النوعين من العلم اللذين لا يزالان غير قادرين على معالجة الذاتية على هذا النحو له ما يبرره من خلال مناشدة سرية لبعضهما البعض مما يفسر هيمنة وجهة النظر العلمية في الحداثة، ومن أجل دراسة العمل بفعالية من الضروري وجود علم ذاتي وعلم يجد أساسه في ظاهرة الذاتية ذاتها.
علم الذاتية:
في القسم الثاني يبدأ بلونديل في العمل على علم الذاتية هذا بدءًا من مستوى عتبة الوعي والبنى العاطفية والحسية للجسم، ففي تحقيقه في تحديدات هذه المكونات الأساسية للوعي يرفض بلونديل أي اختزال للمفاهيم الآلية الشكلية للتحديد أي الحتمية الآلية، وفي البداية يحدث هذا من منظور مجرد عفوية نفسية.
إنّ الحتمية النفسية تمتص الحتمية الجسدية وتضعها عليها، وستقوم بدورها بتثبيت مستويات أعلى من الوجود الإنساني وسيتوسطها في جزء كبير منها نشاط رمزي، والنشاط الرمزي هو الأساس الأصلي لكل من العقل والإرادة للفعل المتعمد والتفكير، كما إنّ الفئات التي يصبح من خلالها الفعل والفكر ممكنًا تظل مشبعة ولكن لم تعد تحددها العاطفة والإحساس، وتدخل وتولد المزيد من الأنظمة المعقدة الخاصة بها والتي على الرغم من أنّه يمكن تمييزها عن الطلبات الدنيا فإنّه حافظ على استمرارية معها أيضًا.
من هذا الأساس يصبح الإنسان واعيًا وليس فقط للدوافع والرغبات أو القدرات ولكن أيضًا للحرية في حد ذاتها وأكثر من وعي بالذات عابر، وفي الواقع الاثنان رغم أنّهما ليسا متطابقين فإنّهما لا ينفصمان، فالانعكاس يوجه العمل والعمل يتطلب التفكير وكلاهما يحدث من خلال الموضوع الذي لا يكون أبدًا واحدًا أو آخر، كما إنّه أيضًا في هذا المستوى حيث يمكن أن يبدأ التعالي في إدراكه بشكل انعكاسي باعتباره مزيدًا من التصميم فيما يتعلق بالجوهر وليس مجرد نفي الجوهر، وبالنسبة للذات يحدث هذا بالنسبة إلى اللانهائي واللانهائي الذي يعرفه المرء بشكل غير كامل من خلال الفعل.
العمل إذن الذي يرتد في الأصل على أساس من السلبية ويتصرف بناءً عليه العالم والآخرون هو تجاوز لتلك السلبية، وفي المقابل هذا يعني أنّ عملية تحديد هذا النشاط فإنّ ذلك التعالي سيكون عملية هي في الواقع عملية ولا يمكن اختزالها ببساطة مرة أخرى إلى نظام جوهري آخر، لا سيما نظام يتم تمثيله على أنه أمر جوهري بحت، ومن أجل هذا من شأنه أن يشركنا مرة أخرى في مشكلة الذاتية التي لا تأخذ في الاعتبار على الإطلاق، كما كان الحال في العلم الحديث ودورها المستمر والمعقد وغير القابل للاختزال في أوامر الموضوعية.
لا يمكن الحفاظ على حرية الإرادة والقدرة على التفكير من أجل العقلانية على أنّها مطهرة، ومع ذلك كما كانت بالنسبة لكانط لأنّ محاولة ضمان استقلالية الإرادة كشرط للفعل الأخلاقي يتجاهل متطلبات الالتزام ودرجة ضرورية من التغاير، ومن أجل العمل في عالم لا يهيمن عليه الشخص ببساطة يجب أن يسمح هذا الفعل لعمله بأن يحدد جزئيًا بمقتضيات الموقف، وبالتالي فإنّ بعض الاستقلالية هي شرط لإمكانية الاستقلال الذاتي.
الفعل هو نوع من العمل المشترك وليس مجرد فرض القوة خارجيًا بل هو علاقة بما يشاء المرء أن يتصرف بناءً عليه ومعه، ويميّز بلونديل بين شاء الإرادة (volonté voulante) وأراد الإرادة (volonté voulue) وهما جانبان من جوانب هذه المسرحية بين الاستقلالية والتغاير في العمل المشترك.
تحليلات بلونديل:
في الأقسام الثلاثة التالية ينفذ بلونديل مجموعة من التحليلات منتقلاً من جسد الموضوع إلى العلاقة بين الفرد والمجتمع، وأخيراً من الاجتماعي إلى الديني بالمعنى العام (الخرافي)، توتبع الحركة العامة في كل حالة نفس الهيكل بحيث يشير تحليل ترتيب المحايثة إلى عدم كفاية هذا الترتيب للظواهر التي تم الكشف عنها في هذا التحليل، مما يشير إلى ضرورة وجود شيء متسامي ومساهم في بنية معنى الأمر الجوهري، ثم يتم استكشاف هذا المتعالي من وجهة النظر الجديدة لهذا النظام من الظواهر ويكشف بدوره عن أوجه القصور والمقتضيات الخاصة به.
بدءًا من الجسد يكشف بلونديل العلاقة بين الحياة الواعية واللاوعي والتي لها دورها الخاص في العمل، كما إنّ عدم إمكانية اختزال الفعل في شكل رسمي لفظي أو مفاهيمي ينبع من حقيقة أنّ وجودنا ككائنات مدركة وواعية بذاتها يتم توسطه من قبل اللاوعي، أي ما هو كتحديدات للوكلاء دون أن يعرفه هؤلاء الفاعلون صراحة.
الوعي ليس شيئًا يفرز تقلبات اللاوعي أو يعمل عليه بعد ذلك، بل هي عقدة الوضوح والشفافية وهي في نفس الوقت تتحول إلى مناطق الظل، كما يسأل بلونديل لماذا يجب أن تتجسد الإرادة في المادية؟ والجواب على هذا ليس مجرد مسألة التفاعل بين الأسباب الشكلية والمادية، فحتى يكون هناك شكل يجب أن يكون هناك مسألة يكمن فيها النموذج، ولا في أي تباين في هذا الأمر فلا يتعلق الأمر ببساطة بعلاقة سببية فعالة بحيث يكون جوهر الإرادة هو العمل بناءً على الجسد ومن خلاله.
بدلاً من ذلك هناك علاقة سببية نهائية تشمل هؤلاء الآخرين ولكنها تتفوق عليهم، ولأنّ الإرادة تكتسب أكثر من مجرد موضع تخارجها في تجسدها وعلى وجه التحديد لأنّ الإرادة هي شيء يحدث مؤقتًا، وتسمح الإرادة لنفسها بالعمل عليها، وأن تتكشف وأن تتفتح فقط من خلال مدها وانسيابها الشامل إلى المادية والخروج منها، ومن ثم لكي تكون الإرادة ليس ما تشاء فحسب بل ما ستكون عليه وماذا ستكون، أي لكي تتحرك نحو نهايتها النهائية يجب أن تسمح بهذا الاندماج والتجسد في الجسد.
هذا يعني أنّ الإرادة يجب أن تدمج نفسها في العمليات المعتادة حيث يوجد تفاعل بين الواعي واللاوعي، وإنّ نفاذية الواعي واللاوعي لبعضهما البعض هو ما يسمح لهما بالتفاعل، وهذه العملية المعقدة للغاية لا يمكن أن يأخذها الوعي ككل دون مساعدة من التخطيط والتصوير، ومع ذلك في الوقت نفسه فإنّ السلبية والعادات اللازمتين لتفعيل الإرادة هي في نفس الوقت نتاج للإرادات السابقة التي توسطت من خلال حالات مادية سابقة.
السلوكيات المعتادة والمعدلة بالتدخلات الواعية للإرادة والانعكاس ليست مجرد علاقة موضوع بمجموعة من الأشياء، وبدلاً من ذلك في هذا المستوى الأساسي تكون العلاقات مع الأشياء مستثمرة بالفعل بدرجة من الذاتية ليست مجرد إسقاط من جانب الفاعل، وإلى درجة أنّ القوى التي تقاوم الإرادة وبالتالي شرط الإرادة ليست مجرد عوامل مادية لنظام غير متجانس تمامًا مع الإرادة فإنّها تأخذ طبيعة ذاتية جزئيًا.
هذه القوى داخل الذات الراغبة يسيطر عليها العقل والإرادة جزئيًا، ولكن من الممكن أيضًا عكس ذلك حيث يصبح الذات مهيمنًا بواسطة دوافع القوى هذه، وفي الواقع هذا يعكس تماما موقف بلونديل، ويمكن أن تهيمن هذه الأشكال على موضوع الإرادة المعقولة لأنّها تلعب دورًا ضروريًا في العمل، وعندئذٍ لا يكون العمل العقلاني والطوعي نقيًا أبدًا فهو يتطلب دائمًا العمل المشترك والتآزر.
يصبح هذا العمل المشترك أكثر وضوحًا في المجال الاجتماعي، فلا تكمن إمكانية الفعل ببساطة في علاقة الفرد بالعالم بل هي بالأحرى تتغلغل بالفعل في المجتمع، ليس أقله فيما يتعلق بالفعل الذي يتم إحضاره إلى الفكر التأملي من خلال أمثلة المفهوم واللغة ولكن أيضًا بسبب الضرورة القاطعة للذاتية البينية، فالشرط لجميع أنواع العمل باستثناء أكثرها بدائية وأساسية هو أن يعمل المرء داخل عالم اجتماعي والذي لا يعني مجرد عالم للآخرين بل عالم يتصرف فيه الآخرون ويتصرفون ويعملون فيه.