فلسفة بوبر المبكرة والعلاقات الإنسانية

اقرأ في هذا المقال


كان مارتن بوبر فيلسوفًا ومربيًا يهوديًا ولد في فيينا، درس في جامعات فيينا حيث في عام 1904 حصل على درجة الدكتوراه، وكتب أطروحته عن نيكولاس دي كوسا وجاكوب بوهمه، وفي عام 1899 تزوج بوبر من بولا وينكلر وهي كاتبة ألمانية معروفة وأنجب منها طفلان.

الجشطالت كوسيلة لتحقيق وللإدراك:

تشمل كتابات بوبر المبكرة مختارات مثل حكايات الحاخام نحمان في عام 1906، وأسطورة بعل شيم توف في عام 1908، والكتابات الصوفية من الأديان العالمية في اعترافات النشومة في عا 1909، ومحاضرات عن اليهودية، وحوار تعبيري عن الإدراك في عام 1913، حيث تتضمن مقالاته عن الفنون تأملات في ايزنهايم التارفيتز ورقصة نيجينسكي، والفن اليهودي والرسام ليسر أوري.

تشترك هذه الإنتاجات المبكرة في الانشغال بالشكل (الجشطالت) والحركة واللون واللغة والإشارة كوسيلة لوجود بشري معين محقق أو مثالي يمثل الحياة خارج حدود المدة المكانية والزمانية المفروضة على لنا بطريقة الشبكة الديكارتية.

الكلمات الألمانية (form) أي شكل و(Gestalt) أي الشكل الكلي (التي تُرجمت هنا كشكل) ليستا متطابقتين على الرغم من أنّه من السهل الخلط بين إحداهما في اللغة الإنجليزية، ويستخدم بوبر الجشطالت كمصطلح للقوة المركزية والتأسيسية والحيوية مقارناً إياها بالمصطلح الأفلاطوني النموذج والذي يربطه بنقص الحيوية الحقيقية، وتعليقًا على عمل لمايكل أنجلو تحدث بوبر عن جشطالت مخبأً في المواد الخام في انتظار الظهور بينما يصارع الفنان مع الكتلة الميتة.

يجسد النضال الفني ويمثل التعارض الأكثر جوهرية بين المبادئ التكوينية (gestaltende) وعديمة الشكل (gestaltlose)، ويكمن التوتر بين هؤلاء بالنسبة لبوبر في مصدر كل تجديد روحي محتدمًا داخل كل فرد بشري باعتباره الفعل الروحي الخلاق الذي يقهر الأشياء المادية غير المشوهة، وإنّه اللعب الحر الشكل الكلي (Gestalt) الذي يسرع صلابة الشكل الميتة.

كانت المصارعة مع الشكل والتغلب عليه وإحيائه بالطاقة الحية في أعمال بوبر المبكرة متجذرة في الاهتمام بتجسيد الإدراك والخيال، وسواء أكان الكتابة عن أسياد الحسيدية أو نيجينسكي أو التدين أو اليهودية أو التصوف أو الأسطورة أو الشرق أو مذبح إيزنهايم فقد عاد بوبر دائمًا إلى نفس الديناميكيات الأساسية، وكل شيء يبدأ من الحقائق الأساسية للوجود البشري: الجسد والحركة، كما فهمها بوبر المبكر (متبعًا للحدس الكانطي) فإنّ العالم هو العالم الذي تم فيه انحلال النظام المكاني الموضوعي حيث لا يحمل لأعلى ولأسفل ولليسار ولليمين أي معنى جوهري.

وبشكل أكثر جوهرية يرتبط التوجه دائمًا بالجسد والذي يعتبر مع ذلك مرجعًا موضوعيًا، وتظل الحياة الأخلاقية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا داخل عالم الفضاء بجسم الإنسان والإحساس الجسدي أثناء وصولهما عبر الانقسام نحو خبرة غير المخففة، فلم تكن الوحدة التي كانت مهمة جدًا لمفهوم بوبر المبكر عن الذات واحدة أصلية، وبدلاً من ذلك كان تأثير تلك الأفعال الإيماءية هو الذي يرقص.

تصور بوبر المجتمع السياسي كنوع من الشكل البلاستيكي وكائن (أو موضوع) من نسق (Gestaltung) وبالتالي إدراك، وتمامًا كما أحيا تمييز كانط بين الظاهرة و(noumenon) بخياله الأدبي، كذلك قام أيضًا بتحويل التمييز النظري القيم بين المجتمع (Gesellschaft) وتواصل اجتماعي (Gemeinschaft) وأنواع التجميع الاجتماعي التي نظّرها فرديناند تونيس في منبع لخطاباته وكتاباته السياسية.

كانت الساحة الأولى لانخراطه الاجتماعي والنفسي والتربوي هي الحركة الصهيونية، وتم تحفيز فلسفة بوبر الاجتماعية وتأثرها بشكل حاسم من قبل صديقه المقرب الفوضوي جوستاف لانداور الذي جنده لكتابة مجلد عن الثورة لمسلسله (Die Gesellschaft)، وبصفته رائدًا في الفكر الاجتماعي وطالبًا في جورج سيميل شارك بوبر في المؤتمر التأسيسي لعام 1909 لجمعية علم الاجتماع الألمانية.

ظل نهج بوبر الاجتماعي-النفسي لدراسة ووصف الظواهر الاجتماعية واهتمامه بالعلاقة التأسيسية بين الفرد وتجربته الاجتماعية جوانب مهمة في فلسفته في الحوار، وظهر مرة أخرى في المقدمة في منصبه الأكاديمي الأخير في الجامعة العبرية في القدس حيث قام بتدريس الفلسفة الاجتماعية.

نضج فكر بوبر تحت تأثير نقد لانداور القاسي والذي أقنع بوبر أنّه قد جعل الحرب رومانسية بشكل غير ملائم، ولا يزال مقال بوبر الرئيسي في عام 1916 لمجلة دير جود الجديدة يشيد بالحرب باعتبارها فرصة لليهود المعاصرين ليشكلوا من فوضى الانقسام شعورًا بالمجتمع والاتصال ووحدة جديدة ووحدة جشطالت موحدة يمكن أن تعيد الشعب اليهودي إلى حالة الكمال، أدى تحدي لانداور للاندماج البشع بين خبرة وتواصل اجتماعي والشكل الكلي من الحرب العالمية والذبح الجماعي إلى نهاية التدين الجمالي في عمل بوبر.

فلسفة الحوار:

أشهر عمل بوبر هو المقال الفلسفي القصير أنا وأنت عام 1923 والمبادئ الأساسية التي كان عليه تعديلها ولكن لا يتخلى عنها أبدًا، في هذا العمل يعبر بوبر عن الحدس الذي نحتاجه لتحمل إغراء تقليص العلاقات الإنسانية إلى طرق أبولونية أو ديونيزية وعقلانية أو رومانسية للتواصل مع الآخرين، فنحن كائنات يمكن أن ندخل في علاقات حوارية ليس فقط مع البشر الآخرين ولكن مع الكائنات الحية الأخرى مثل الحيوانات أو الشجرة وكذلك مع أنت الإلهي.

إنّ ازدواجية العلاقات وفي أقصى حدودها صدفتها قد تكون بمثابة المفتاح لفكر بوبر الناضج في كل شيء من نهجه إلى الإيمان الكتابي إلى سياسته العملية في مسائل العلاقات اليهودية العربية في فلسطين، وتمت ترجمة (أنا وأنت) لأول مرة إلى اللغة الإنجليزية في عام 1937 بواسطة رونالد جريجور سميث ثم تمت ترجمته مرة أخرى بواسطة والتر كاوفمان، وكان الأصل الألماني كلاسيكيًا سريعًا ولا يزال مطبوعًا حتى اليوم، وفي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عندما سافر بوبر وحاضر لأول مرة في الولايات المتحدة أصبح المقال شائعًا في العالم الناطق باللغة الإنجليزية أيضًا.

في حين كان بوبر قبل الحرب العالمية الأولى قد روج لجماليات الوحدة والتوحيد فإنّ كتاباته اللاحقة تتبنى ازدواجية أقسى وأكثر عنصرية، وعارض بوبر دائمًا الوحدوية الفلسفية التي حددها مع بيرجسون واعترض على مذاهب الانغماس التي حددها مع البوذية، وتعقيدًا للشكل غير المتمايز للتجربة الصوفية (كما سعى القرون الوسطى بما في ذلك إيكهارت “Eckhart” باعتباره إبادة للذات).

يختصر نص بوبر العلاقة بين الأشخاص والأشياء الحية والإله إلى ثلاثة دلالات معبرة: أنا وأنت وهو، حيث إنّها المتغيرات الأساسية التي يتم تجميعها وإعادة تركيب هيكل كل تجربة باعتبارها علائقية، فالعناصر الفردية تدرك نفسها في العلاقات وتشكل أنماطًا تنفجر في الحياة وتنمو وتختفي وتنعش، وتؤكد الذاتية البشرية متعددة الأشكال لقاء أنا وأنت.

بالاعتماد على الادعاء القائل بأنّه لا يوجد أي منعزل بصرف النظر عن العلاقة مع الآخر فإنّ الحوار أو اللقاء يحول كل شخصية إلى مركز قيمة غامض ونهائي يستعصي حضوره على مفاهيم اللغة الأداتية، وإنّ الكشف غير المتجانس عن وجود فردي يدعو الذات إلى علاقة مفتوحة ونمط حي ويتحدى المعنى والمنطق والنسبة، ففي حين أنّ علاقة أنا وهو في أكثر مراحلها تدهورًا تفترض الشكل الثابت للأشياء التي يمكن قياسها ومعالجتها.

في صميم نموذج الوجود هذا يكمن مفهوم اللقاء على أنّه وحي، كما فهم بوبر فإنّ الوحي هو الكشف عن الوجود (Gegenwart)، على النقيض من الكائن (Gegenstand) فإنّ الوجود الذي كشف عنه الوحي كالتقاء يشغل الحيز (بين) الذات والآخر، ويتم تعريف هذه المساحة (بين) على أنّها متبادلة (gegenseitig)، على النقيض من المفهوم الكانطي للتجربة (Erfahrung) فإنّ الخبرة (Erlebnis)، أو الكشف عن الوجود المطلق هو شكل نقي لا يوصف ولا يحمل ذرة من المحتوى المفاهيمي أو اللغوي المحدد أو الشبيه بالكائن.

أصر بوبر دائمًا على أنّ مبدأ الحوار أي ازدواجية الكلمات الأولية (Urworte) التي أطلق عليها اسم (I-Thou) و(I-It)، ولم يكن تصوراً مجرداً بل حقيقة وجودية أشار إليها ولكن لا يمكن تمثيلها بشكل صحيح في النثر الخطابي.


شارك المقالة: