فلسفة بوذا في علم الكونيات

اقرأ في هذا المقال


لا يوجد نظام واحد لفلسفة علم الكونيات البوذية، فعمليًا كل نزعة لاهوتية داخل التقليد البوذي تناولت العلوم الكونية من منظورها الخاص، حيث رؤية الكون كمرحلة لدراما الخلاص من منظور ميوله الفلسفية واللاهوتية الخاصة، وترتبط الأنظمة البوذية ليس فقط بالأنظمة الهندية الأخرى، على سبيل المثال الهندوسية والجينية وجوفيكا وما إلى ذلك ولكن أيضًا بالتكهنات الهلنستية.

المنظور العام لفلسفة علم الكونيات لدى البوذيين:

يصور نظام العالم الفردي البارز بشكل خاص في أقدم النصوص البوذية الكون كقرص مسطح به عوالم السماوات والتأمل في الأعلى وأسفل الجحيم، وعلى الرغم من أنّ التقليد الأقدم قد حصر اهتمامه على ما يبدو بنظام العالم الواحد، إلّا أنّ بنية كونية فخمة تطورت على محيط هذا الكون الوحيد، وتظهر آثار الموضوعات المرتبطة بأنظمة العوالم المتعددة في نصوص بالي كانون.

تم ذكر نظام من عشرة آلاف عالم في جاتاكاس على الرغم من القليل من التفصيل وبطريقة أكثر منهجية في (Buddhaghosa’s Visuddhimagga)، وهذه وغيرها من الكوسمولوجيات المماثلة هي متغيرات من علم الكونيات ساسرة (sāhasra) أو علم الكونيات بالآلاف، حيث يركزون على موضوعات الزمن الكوني وينتمون إلى مدارس حنينا (Hīnayāna) للبوذية.

يمكن وصف كوزمولوجيا المحاينا التي تتميز بأنظمة عالمية لا حصر لها موزعة في جميع أنحاء المناطق العشر للفضاء على أنّها علم كونيات أسخية أو علم كوزمولوجيا لا حصر لها، وعلى الرغم من أنّ بعض هذه الأنظمة العالمية تفتقر إلى وجود بوذا إلّا أنّ معظمها عبارة عن حقول بوذا بوذاكاترا (buddhakṣetra s)، حيث يقيم تاغاتا المستنير بالكامل ويعلم القانون لصالح عدد لا يحصى من الكائنات.

أنواع بوذاكاترا (buddhakṣetra):

بشكل عام هناك ثلاثة أنواع من بوذاكاترا:

1- نقي (viuddha).

2- نجس (aviśuddha).

3- مختلط (miśraka).

السخافاتي هو الأكثر شهرة بين الأراضي النقية على الرغم من أنّه في بعض النصوص يخضع بوضوح لبعض النصوص، فإن (saṃsāra) هي أهم الأراضي غير النقية على الرغم من أنّه من منظور آخر يمكن اعتبار (saṃsāra) أرضًا مختلطة مزينة بالتناوب (نقية) وغير مزخرفة (غير نقية)، ويقع صحا (Sahā) في منطقة الجنوب وهو عالمنا وهو حقل بوذا شاكياموني (Śākyamuni).

في قلب كل من هذه الكوسمولوجيات هي دراما الخلاص، حيث إنّ دراما الخلاص هذه المتضمنة في جميع الكوسمولوجيات البوذية هي التي تسمح بدمج الأسس العلمية واللاهوتية لهذه الكوسمولوجيات وممثلة في صور الحركة والضوء، وبشكل أكثر تحديدًا تحول هذه الكونيات الموضوعات الفلكية للحركة والضوء إلى موضوعات أسطورية-فلسفية عن الرحلة والروح، وإنّ الأرقام التي تبدو رائعة في هذه الكوسمولوجيات ترتكز على قوة الرياضيات التي تسمح لعلماء الفلك بقياس حركات السماء وتمكن المؤمنين من فهم الآثار اللاهوتية والصوفية لهذه القياسات.

الكون ودور الآلهة:

يقبل بوذا بالي نيكياس السمة الكونية المميزة لسياقه الثقافي حيث عالم به عدة عوالم من الوجود، وحيث يولد الناس من جديد ويموتون مرارًا وتكرارًا (saṃsāra) -دورة الموت والولادة التي ترتبط بها الحياة في العالم المادي- اعتمادًا على أفعالهم السابقة (karma) حتى يصلوا إلى الخلاص (mokṣa).

ومع ذلك فإنّ بوذا يعدل بشكل كبير علم الكونيات في عصره، وضد الميل البراهماني لفهم الكارما كعمل طقسي وادعاء جاين أنّ جميع الأنشطة بما في ذلك الأفعال اللاإرادية تشكل الكارما، ويعرف بوذا الكارما من حيث الإرادة أو الإرادة الحرة والتي يتم التعبير عنها من خلال الأفكار والكلمات والسلوك، أي بالنسبة لبوذا فقط الأفعال الطوعية هي التي تنتج الكارما.

دور (Saṃsāra):

تعديل مهم آخر هو أنّه بالنسبة لبوذا في بالي نيكياس تشير (saṃsāra) في المقام الأول إلى عملية نفسية فيزيائية تحدث داخل الكون المادي، على سبيل المثال عندما يتحدث بوذا عن نهاية العالم يقول إنّه لا يمكن الوصول إليه بالسفر عبر الكون المادي ولكن فقط من خلال وضع حد للمعاناة (saṃsāra) حيث: “لم يولد المرء ولا يشيخ ولا يموت ولا يزول ولا يولد من جديد”.

ووفقًا لذلك لا يُفهم الخلاص بمصطلحات إنكار للعالم أو على أنّه هروب من الكون المادي، بل بالأحرى كتحول داخلي يحدث داخل الكائن النفسي الفيزيائي للفرد: “إنّه يا صديقي في هذه الذبيحة العالية الفهم فقط والمزودة بالإدراك والعقل هي التي أجعلها معروفة للعالم، وأصل العالم ووقف العالم والطريق المؤدي إلى توقف العالم”.

أنواع (Saṃsāra):

هناك خمسة أنواع من الوجهات في (Saṃsāra):

1- الجحيم.

2- مملكة الحيوانات.

3- عالم الأشباح.

4- الجنس البشري.

5- عالم الديفا أو الكائنات المشعة والتي تُترجم عادةً إلى الآلهة.

هناك الكثير من الجحيم والسماء والحياة هناك مؤقتة كما هو الحال في الأماكن الأخرى، ففي بعض التقاليد توجد وجهة أخرى أي عالم الأسورا أو أنصاف الآلهة الذين يشعرون بالغيرة من الآلهة والذين يتعارضون معهم دائمًا.

أقسام الكون:

يقسم بالي نيكياس الكون (Sa universsāra) إلى ثلاث مستويات رئيسية للوجود حيث تنقسم كل واحدة إلى عدة عوالم، ومستويات الوجود الثلاثة هي:

1- الحسية.

2- المواد الدقيقة (المواد المادية).

3- غير المادية.

حيث معظم الوجهات تنتمي إلى العالم الحسي، وفقط أقلية من السماوات تنتمي إلى العوالم المادية وغير المادية، وإعادة الميلاد في عالم معين يعتمد على الأفعال السابقة أي الأفعال الجيدة تؤدي إلى وجهات جيدة والأفعال السيئة إلى ولادة جديدة سيئة، حيث إعادة الميلاد كإنسان أو في الجنة يعتبر وجهة جيدة، وولادة جديدة في عالم الأشباح والجحيم وعالم الحيوان سيئة.

من الصعب للغاية تحقيق ولادة جديدة للإنسان، وتحظى بتقدير كبير بسبب مزيجها الفريد من الألم والمتعة، فضلاً عن الموصلية الفريدة لتحقيق التنوير، وفي هذا المعنى الأخير يُقال إنّ إعادة الميلاد البشري أفضل من إعادة الميلاد كإله.

تعتمد إعادة الولادة أيضًا على الحالات العقلية السائدة للشخص أثناء الحياة وخاصة في لحظة الوفاة، أي أنّ هناك علاقة متبادلة بين الحالات العقلية وعوالم إعادة الميلاد بين علم الكونيات وعلم النفس، على سبيل المثال العقل الذي تسود فيه الكراهية والغضب من المرجح أن يولد من جديد في الجحيم، حيث العقول المضللة وغير المثقفة تتجه نحو مملكة الحيوان.

ومن المحتمل أن يصبح الشخص المهووس بالجنس والطعام ومرتبطًا بالأرض كشبح، وسيولد الأشخاص المحبون والعاطفيون من جديد في الجنة، والشخص الذي يسكن بشكل متكرر في الاستغراق التأملي سوف يولد من جديد في العوالم المادية وغير المادية، وقد تكون إعادة الميلاد البشري نتيجة لأي من الحالات العقلية.

فلسفة بوذا في علم الكونيات:

ربما كان أهم تعديل أدخله بوذا في علم الكونيات التقليدي في عصره هو النظرة الجديدة للآلهة (الآلهة في البوذية)، ففي بالي نيكياس لا تلعب الآلهة أي دور كوني مهم، وبالنسبة لبوذا لم يتم إنشاء الكون من قبل إله كلي المعرفة والقوة وهو سيد الكون وأب جميع الكائنات، وبدلاً من ذلك يتطور الكون باتباع أنماط دورية معينة من الانكماش والتوسع.

وبالمثل فإنّ النظام الكوني أو دارما لا يعتمد على إرادة الآلهة وهناك العديد من الأعمال الصالحة أكثر فعالية بكثير من الذبائح الطقسية المقدمة للآلهة، فآلهة بوذا هي كائنات غير مستنيرة تخضع للولادة والموت وتتطلب مزيدًا من التعلم والممارسة الروحية من أجل تحقيق التحرير، وهم أقوى وأكثر تطوراً روحياً من البشر والكائنات الحية الأخرى ولكن بوذا يتفوق عليهم في جميع النواحي أي التطور الروحي والحكمة والقوة، وحتى النوع الأسمى من الآلهة براهما يقدم احترامه لبوذا ويمدحه ويطلب منه أن ينصحه بالدارما لمن لديهم القليل من الغبار في أعينهم.

نظرًا لأنّ بوذا في بالي نيكياس لا ينكر وجود الآلهة وفقط وظائفهم الكونية والخلاصية فمن غير الدقيق تعريف البوذية المبكرة على أنّها ملحدة أو غير إيمانية، وعادةً ما ترتبط كلمة ملحد بالمواقف المعادية للدين التي لا توجد في بوذا، ويبدو أنّ مصطلح غير إيماني يشير إلى أنّ رفض المفهوم الإيماني عن الله هو أحد الاهتمامات الرئيسية لبوذا في حين أنّه في الواقع سؤال هامشي في بالي نيكياس.


شارك المقالة: