اقرأ في هذا المقال
كتب الفيلسوف جيل دولوز في المقدمة الإنجليزية للحوارات بانّه يشعر نفسه بأنّه تجريبي، فمصطلح تجريبي مشتق من السمتين اللتين عرّف بواسطتهما وايتهيد التجريبية، من حيث أنّها المجرد لا يفسر ولكن يجب تفسيره هو نفسه.
دولوز والفلسفة التجريبية:
إنّ الهدف ليس إعادة اكتشاف الأبدي أو العالمي بل إيجاد الظروف التي ينتج فيها شيء جديد، ويمكن للمرء أن يرى أنّ مثل هذا التعريف للفلسفة يختلف اختلافًا حادًا على الأقل من الواضح عن الفهم التقليدي الذي كرسته التواريخ الأنجلو أمريكية للفلسفة، مثل هذا التاريخ سيجعلنا نعتقد أنّ التجريبية هي قبل كل شيء العقيدة القائلة بأنّ أي معرفة نمتلكها مشتقة من الحواس والحواس وحدها تتبنى الآراء الحديثة للعلم مثل هذه العقيدة، وتطبقها كأداة لاشتقاق حقائق حول العالم المادي.
تجريبية دولوز هي في نفس الوقت تطرف راديكالي ورفض لنموذج بيانات المعنى هذا، وبدلا من ذلك فإنّه يأخذ وجهة نظر فيما يتعلق بالمتعالي بشكل عام، ويقول في كتابه عن هيوم أنّه يمكننا الآن رؤية الأرضية الخاصة للتجربة: “لا شيء متعالي على الإطلاق”، فالادعاء بأنّ المعرفة مشتقة من الحواس وحدها وليس من الأفكار الموجودة في العقل قبل التجربة (كما هو مذكور في تقليد طويل من أفلاطون إلى ديكارت وما بعده باقية في خطاب العلم الحديث) هو في الواقع رفض لسمو معين للعقل.
ولكن بالنسبة لدولوز هذه ليست سوى اللحظة الأولى من إزاحة جذرية لجميع المتعاليين التي تعتبر مركزية في جميع أعماله، من حيث التشكيك في تفوق العقل باعتباره الطريقة المميزة المسبق فيما يتعلق بالعالم، والتشكيك في الصلة بين الحرية والإرادة ومحاولة إلغاء الثنائيات من الأنطولوجيا وإعادة السياسة قبل الوجود.
جوانب فلسفة دولوز التجريبية:
للعودة إلى الاقتباس من الحوارات هناك جانبان من فلسفة دولوز التجريبية، فالأول هو رفض جميع المتعاليين ولكن الثاني هو عنصر نشط، فبالنسبة لدولوز تتعلق التجريبية دائمًا بالخلق، ومن حيث الفلسفة فإنّ الإبداع بامتياز هو خلق المفاهيم، وهذه الفكرة عن الفلسفة كإبداع تجريبي للمفاهيم أو البنائية تم تناولها مرة أخرى في ما هي الفلسفة؟ وهي موجودة في جميع دراساته التاريخية للفلاسفة.
هذان الجانبان من التجريبية موجودان في كل أعمال دولوز، وبهذا المعنى فإنّ ادعائه حول كونه فيلسوفًا صحيحًا بشكل واضح، طور دولوز وجهة النظر هذه بشكل أساسي من خلال النصوص التي كتبها قبل عام 1968 وخاصة من خلال ثلاثة فلاسفة آخرين الذين قرأهم على أنهّم تجريبيون بالمعنى المذكور وهم: ديفيد هيوم وسبينوزا وفريدريك نيتشه.
مفاهيم دولوز التجريبية المركزية:
بينما يشير دولوز غالبًا إلى المفاهيم المركزية للتجربة كما صاغها هيوم تقليديًا في الرسالة (الارتباط والتعود والاتفاقية وما إلى ذلك)، فإنّه يطور أيضًا خلال عمله عدد من المفاهيم الأساسية الأخرى التي ينبغي اعتبارها تجريبية وأبرزها المحايثة والبنائية والإفراط.
الكلمة الأساسية في كتابات دولوز كما يبدو والتي يمكن العثور عليها في جميع نصوصه الرئيسية تقريبًا دون فشل وهي اللزوم، ويشير هذا المصطلح إلى فلسفة تستند إلى الواقعي التجريبي أي تدفق الوجود الذي ليس له مستوى متعالي أو فصل متأصل، ونصه الأخير الذي نُشر قبل أشهر قليلة من وفاته وحمل عنوان (اللزوم: حياة)، ويصر دولوز مرارًا وتكرارًا على أنّ الفلسفة لا يمكن أن تتم بشكل جيد إلّا إذا اقتربت من الظروف الجوهرية لما تحاول التفكير فيه، وهذا يعني أنّ كل الفكر من أجل أن يكون له أي قوة حقيقية، ويجب ألّا يعمل من خلال إنشاء ترانسيندنتالز ولكن من خلال خلق الحركة والنتائج.
فإذا كنت تتحدث عن إنشاء أشكال جديدة من التعالي أو المسلمات الجديدة أو استعادة الذات الانعكاسية كحامل للحقوق أو إعداد ذاتية تواصلية بين الذات فهذا ليس تقدمًا فلسفيًا كبيرًا، ويريد الناس إنتاج إجماع لكن الإجماع هو مثال يوجه الرأي ولا علاقة له بالفلسفة.
فإصرار دولوز على مفهوم الجوهري له أيضًا معنى وجودي كما يبدو في دراساته عن سبينوزا ونيتشه، والتي تعود لاحقًا في أعمال مثل الاختلاف والتكرار والرأسمالية وانفصام الشخصية حيث هناك مادة واحدة فقط، وبالتالي يجب النظر إلى كل ما هو موجود على نفس المستوى وتحليله من خلال علاقاتهم وليس من خلال جوهرهم.
البنائية هو العنوان الذي يستخدمه دولوز لوصف حركة الفكر في الفلسفة، وهذا له حاستان:
1- أولاً يجب أن تخلق التجريبية والفكر الجوهري والحركة، وأن تخلق المفاهيم إذا أريد لها أن تكون فلسفة وليس مجرد رأي أو إجماع، ويستشهد دولوز وغوتاري نيتشه بشأن هذه النقطة: “يجب على الفلاسفة ألّا يقبلوا بعد الآن بالمفاهيم كهدية، ولا مجرد تنقيتها أو تلميعها، بل يجب أن يصنعوها ويخلقوها أولاً ويقدمونها ويجعلونها مقنعة”.
2- ثانيًا فيما يتعلق بالفلسفة الأخرى يؤكد دولوز أننا لا نكرر ما قالوه بالفعل حيث أنّ التجريبية تحلل حالات الأشياء بطريقة يمكن من خلالها استخلاص المفاهيم غير الموجودة مسبقًا منها”، وهذه البنائية بالنسبة لدولوز لها وزن في جميع مجالات البحث، كما يوضح في دراساته للأدب والسينما والفن.
علاوة على ذلك لا تسير البنائية على طول أي خطوط محددة مسبقًا، وبالنسبة لدولوز لا يوجد شيء ضروري لخلقه، فالفكر ليس له توجه محدد مسبقًا، وبالتالي فإنّ الفكر التجريبي هو دائمًا إستراتيجي بمعنى ما.
يأخذ مفهوم التجاوز مكانه في فكر دولوز عن المتعالي، وبدلاً من كائن جدول على سبيل المثال ويتم تحديده وإعطائه جوهره من خلال مفهوم متعالي أو فكرة (أفلاطون) قابلة للتطبيق مباشرة عليه أو تطبيق فئة أو مخطط متعالي (إيمانويل كانط)، ويتم تجاوز كل شيء موجود بالقوى التي تشكلها، فلا يحتوي الجدول على ما هو لذاته ولكن له وجود داخل حقل أو إقليم وهو ما يتجاوز معناه أو سيطرته.
وهكذا توجد طاولة في المطبخ وهو جزء من منزل عائلي مكون من ثلاث غرف نوم وهو جزء من مجتمع رأسمالي، بالإضافة إلى ذلك تُستخدم الطاولة لتناول الطعام وتربط نفسها بجسم الإنسان وعنصر آخر مُنتَج ومستهلك وهو الهامبرغر، وبالنسبة لدولوز يمكن للمرء دائمًا أن يحلل بشكل لا نهائي في أي اتجاه علاقات القوة هذه والتي دائمًا ما تتجاوز أفق الشيء المعني.
لكن بالنسبة لدولوز لا شيء يتجاوز الذاتية، وهذا ليس بيانًا للأولوية الأنطولوجية ولكنه يحمل الامتياز الشديد الذي يتمتع به الذات الواعية بالذات في تاريخ الفكر الغربي، ومن المؤكد هنا أنّ دولوز يستخدمه بشكل أكثر أهمية لمفهوم التجاوز، فعند وضع في الاعتبار على سبيل المثال يتم تحديد الذاتية كتأثير، ولا يوجد عدد أقل من الأشياء في العقل التي تتجاوز وعينا من الأشياء الموجودة في الجسد التي تتجاوز معرفتنا.
النقطة المهمة هي أنّ القوى البشرية ليست بمفردها بما يكفي لتأسيس شكل مهيمن يمكن للإنسان أن يثبت نفسه فيه، ويجب أن تتحد القوى البشرية (التي لديها فهم وإرادة وخيال وما إلى ذلك) مع قوى أخرى حيث ينشأ شكل عام من هذا المزيج، ولكن كل شيء يعتمد على طبيعة القوى الأخرى التي ترتبط بها القوى البشرية.
بينما يعترض دولوز على أنّه لم ينجح أبدًا في رفض الافتراضات التقليدية مثل الموضوع، فإنّه كثيرًا ما يكتب عن فكرة الموضوع الزاد من كتابه الأول عن هيوم وطوال عمله، وهذا إلى حد ما يضعه في المشهد الطبيعي لما يعرف بفكر ما بعد الحداثة، إلى جانب شخصيات أخرى مثل جاك دريدا وجان فرانسوا ليوتارد وميشيل فوكو.