فلسفة روجر بيكون في الرياضيات والعلوم الطبيعية

اقرأ في هذا المقال


من بين المساهمات الأكثر شهرة للفيلسوف روجر بيكون في الفلسفة تأملاته وحججه المتعلقة بمجالات الرياضيات والعلوم الطبيعية، وضمن هذا الأخير يُعرف بيكون بشكل خاص بتركيزه على الخبرة وعلى العلوم التجريبية، بما في ذلك البصريات والتي تسمى أيضًا المنظور أو علم الجوانب، وتم تقديم العديد من تأملاته حول العالم المادي وذلك في سياق نقده المكثف للتعلم الجامعي، الذي يرجع تاريخه إلى ستينيات القرن التاسع عشر والذي غالبًا ما أضفى طابعًا بلاغيًا وتربويًا.

إسهامات روجر بيكون في العلوم:

ومع ذلك لم تقتصر مساهمات بيكون في هذا المجال على الجدل، وبصرف النظر عن الأوبرا البابوية وهي: العمل العظيم والعمل الأصغر والعمل الثالث، فقد كانت أهم أعماله في الموضوعات الرياضية والفيزيائية هي حول تكاثر الأنواع (De Multiplicatione Specierum)، وهي مؤرخة قبل الأوبرا البابوية، بينما الطبيعة المشتركة (Communia Naturalium) والرياضيات المشتركة (Communia Mathematica) كلاهما مؤرخان بعد عام 1267.

لا تتكون إنجازات بيكون في هذه المجالات من تقارير عن ممارسة علمية محددة أو إرشادات منهجية محددة في التجريب، وعلى العموم كان عمله في الرياضيات والعلوم الطبيعية أكثر نظرية، ودافع عن الرؤى التربوية والمنهجية الجديرة بالملاحظة المتعلقة بحساب الفلسفة الطبيعية مثلًا، ولقد بذل أيضًا جهدًا ناجحًا إلى حد ما للتوفيق بين النهجين العلميين المتباينين الأفلاطوني والأرسطي وبالتالي تقديم توليفة عملية ومقنعة.

تعديل بيكون للعلوم الرباعية:

في تقليد القرون الوسطى اللاتينية تم إدراج الحساب والهندسة والموسيقى وعلم الفلك في (Quadrivium) أي الرباعية جنبا إلى جنب مع ما يسمى (Trivium) أي القواعد والمنطق والبلاغة، وشكلوا جزأين من الفنون الليبرالية السبعة، ففي ذلك الوقت كانت الفنون الليبرالية السبعة تعتبر فروعًا للفلسفة.

تعاملت جميع الفنون الرباعية أو الرياضية مع الكمية، وهو المبدأ الذي يقال بموجبه أنّ الأشياء متساوية أو غير متساوية، وتعامل الحساب والموسيقى مع الكميات أو الأرقام المنفصلة، بينما تعامل علم الهندسة وعلم الفلك مع الكميات المستمرة مثل الخطوط، وتقليديا شكلت التخصصات الرياضية أو الرباعية (المنهج العلمي) في العصور الوسطى من حيث أنّهم درسوا العالم الطبيعي.

في ظل الافتراض الميتافيزيقي بأنّ كل كيان مادي قد تشكل من خلال جوهر العدد، وأنّ الظواهر الفيزيائية يمكن بالتالي تقسيمها إلى مصطلحات حسابية أو هندسية، ويمكن وصف العالم الطبيعي باستخدام الضوابط التربيعية، مثلًا علم الفلك درس حركة الأجرام السماوية من خلال استخدام الحساب العددي والهندسة.

كان اهتمام بيكون بالضوابط الرباعية أخلاقيًا في نهاية المطاف من خلال الحصول على دعم البابا لإصلاح دراسات الفنون الحرة، وكان يأمل في تحسين تعلم الطلاب وتعزيز التقدم العلمي، مما يخدم في النهاية تنمية الأشخاص الأخلاقيين، ولهذا الغرض عدّل بيكون التقسيم الموروث بإضافة علوم جديدة إلى الأربعة التقليدية، كما حدد قائمة بسبعة علوم خاصة من بينها:

1- المنظور (البصريات).

2- علم الفلك القضائي (علم التنجيم).

3- علم الأوزان.

4- الطب.

5- العلوم التجريبية.

6- الكيمياء.

7- الزراعة.

حيث رأى بيكون أنّ ثلاثة من هذه العلوم لها أهمية خاصة:

1- علم الفلك القضائي.

2- الكيمياء.

3- العلوم التجريبية.

ومع ذلك فبالإضافة إلى مجرد سرد العلوم الجديرة بالدراسة، قدم بيكون حجة لطرق جديدة للتعامل مع بعض العلوم الأكثر رسوخًا وبالتالي إدخال مصادر أقل شهرة أو مهملة حتى الآن، ففي حالة المنظور مثلًا دعا إلى استخدام كتاب ابن الهيثم (الحسن بن الهيثم) في علم البصريات المناظر.

اعتبر بيكون أنّ إهمال معاصريه لهذه العلوم الخاصة له عواقب ضارة ليس فقط لتقدم التعلم ولكن على حالة المجتمع ككل، ووبخ أساتذة وعلماء الطب لأنّهم تعاملوا مع مجالهم بطريقة خاطئة لأنّهم أهملوا الرياضيات والتجريب، ووبخ اللاهوتيين لتجاهلهم العلوم الكبرى في دراستهم للكتاب المقدس، كما اعتقد بيكون أنّ إصلاح دراسات الفنون الليبرالية بشكل عام والرباعية على وجه الخصوص، كان أمرًا ضروريًا بسبب المنفعة البارزة للعلوم الرياضية والطبيعية.

إنّ الفهم المحسن للعالم الطبيعي من شأنه أن يفيد التأويلات الكتابية من حيث أنّ فهم المعنى الحرفي للكتاب المقدس من شأنه أن يؤدي إلى فهم أفضل لمعنىهم الروحي، ويعتقد بيكون أنّ إصلاحاته ستعزز أيضًا المعرفة العملية القادرة على التخفيف من جميع أنواع الأمراض البشرية، أو ضمان تفوق المسيحيين في الحرب.

على الرغم من أنّ عدم الرضا عن الوضع الراهن للتدريس والبحث كان يشكل جزءًا كبيرًا من اعتذار بيكون عن العلوم، فقد قدم أيضًا مادة أصلية عن المنهج العلمي في (Scientia Experimentalis) على سبيل المثال بالإضافة إلى المحتوى العلمي الأصلي كما هو الحال في مذهبه عن السببية الجسدية.

آراء بيكون العلمية والإدانة عام 1277:

في مناصرة العلوم الخاصة اهتم بيكون بالمناخ الفكري الذي وجد نفسه فيه، وكان المناخ السائد في باريس قبل إصدار الأسقف إتيان تيمبيير لإدانة في عام 1277 هو مناخ الاشتباه في العلوم الأكثر تفضيلًا لدى بيكون: وهي علم الفلك القضائي والكيمياء والعلوم التجريبية، وفيما يتعلق بالجو في الرهبنة الفرنسيسكانية من المحتمل أنّ بونافنتورا رئيس بيكون كان يفكر جزئيًا في بيكون عندما اتهم في ترتيبه للفلسفة الأرسطية عام 1273 بأنّها تتعارض مع العقيدة المسيحية.

وهكذا فإنّ الكثير من عرض بيكون على سبيل المثال علم التنجيم القضائي والتأثير السماوي كان مستوحى من الحذر، ولم يكن يريد أن يتهم بالضرورة الرأي القائل بأنّ الأحداث السماوية تحدد الأحداث الدنيوية، حيث كانت الحتمية الفلكية من بين المذاهب التي دحضها الأسقف تيمبيير، وفي سياق الكيمياء والعلوم التجريبية انتبه بيكون لخطر التنديد بالسحر.

ومع ذلك كان بيكون مؤيدًا صريحًا للسحر الطبيعي، واتهم خصومه بالغباء اللامتناهي واستحقاقهم السخرية وذلك لتجاهلهم فائدة علم الفلك القضائي، ولإحباط الاعتراضات والتهم المحتملة بذل بيكون جهودًا كبيرة لتمييز السحر الصحيح، والعقائد والممارسات التي يتم إنجازها بمساعدة الشياطين من السحر الطبيعي والظواهر الفيزيائية العجيبة والمذهلة.

كما دافع عن العلوم المعنية بتجنيسها، وقدم حججًا توضح أنّ التأثيرات السحرية على ما يبدو تحاكي الطبيعة في عملياتها ولا تستخدم مساعدة الشياطين، وكان أحد العناصر المهمة جدًا في التفسير الطبيعي لبيكون للظواهر المفترضة السحرية، مثل التأثير الفلكي هو نظريته عن السببية الفيزيائية والمعروفة باسم تكاثر الأنواع.

ومع ذلك من المتفق عليه بشكل عام أنّه في بعض النواحي تحد آراء بيكون من التقاليد السحرية، ويتضح هذا من نصه في حول الأعمال السرية للفن والطبيعة (De Secretis Operibus Artis et Naturae) عام 1267، وكذلك من الامتياز الثالث للعلم التجريبي الذي كان فيه خيال بيكون جامحًا، وعرض أعاجيب مثل أي وقت مضى مصابيح مشتعلة، وكانت هذه الكتابات مدفوعة بالرغبة في إفادة الدولة والكنيسة.


شارك المقالة: